لماذا يسوع دوناً عن الآخرين؟


بقلم فادي أبو ديب

1-Jesus looking out on all of us

 ما خرجت به من قراءاتي هو أنّ هنالك ناحية في شخصية يسوع كمعلّم تجعله مختلفاً جداً عن كل ما عداه.  لا يتعلّق الأمر بماهية بعض التعاليم الأخلاقية بل الأمر أعمق من هذا.

بدون مقدّمات، فإنّ يسوع هو الوحيد الذي يتحدث بطريقة واثقة تضمن الخلاص، ثم يرافق الشخص في رحلته.

   الآخرون يعلمونني أشياء جميلة ولكنهم يقفون جانباً لا يريدون أن يساعدوني.  لا أحد منهم مستعد للتضحية!
بوذا مثلا رائع كتقنيات تاملية وكحكمة ولكنه لا يوحي بثقة.  لا يوجد تعاطف لديه، آلة حكمة، معلم تفكير، ولكنه ببساطة لا يشجع على الثقة بأي شيء.

يروي الصوفي ومعلّم اليوغا الهندي ساذغورو قصة طريفة عن بوذا، حيث كان المعلّم الهندي الحكيم يجلس ذات صباح مع بعض تلاميذه ومريديه حين جاءه أحد المتديّنين الهندوس من أتباع  الإله الهندي راما، فوقف بعيداً في الظل في الصباح الباكر، وسأل بوجل “هل الله موجود؟”  فأجابه بوذا بحزم “لا!”، فعمّ الفرح في قلوب الحاضرين بسبب أنّ بوذا أعطى إجابة حاسمة ولو لمرّة، فبوذا كان معروفاً بأنّه منوِّر عظيم ومعلِّم موهوب كان يسعى إلى تنوير أتباعه بنوع من الحكمة، ولكنه ليس مهتمّاً بإعطائهم الإجابات أو الضمانات، وهذا جيد من بعض النواحي، ولكنه مرعب من ناحية أخرى، فالإنسان ينتظره مصير أبدي وإن لم يصل لإجابة فحياته في خطر حتى بالنسبة للهندوسية والبوذية.  وفي المساء جاءه أحد الأشخاص الملحدين فسأله نفس السؤال، فأجابه بحزم “نعم!”، وعندها استغرب الحضور من إجابته المتناقضة.  ورغم أنّه كان هنالك حكمة ما في إجابة بوذا على هذا السؤال بطريقتين متناقضتين، فإنّ إجابته تدل أيضاً على أن الحقيقة لديه تتعلّق بحالة الشخص الذي أمامه، فهمّه الأول التحفيز على البحث أكثر من إعطاء الحقيقة، وهذا موقف رائع من ناحية، ولكنه من ناحية غير مسؤول بشكل ما!

 من ناحية شخصية أعشق لاوتسو، حكيم التاو، لكني أرى أنّ لا تعاطف لديه، لا يخاطب قلقي الوجودي، لا حنين في كلماته. التاو عنده مبدأ مجهول وجامد، وعلى الإنسان أن يبحث من دون أي معونة عن الطريق الصحيح (التاو)، ورغم أنّ كتاب التاو تي تشينغ يصلح بالنسبة لإنسان صيني كمقدّمة مثلاً لإنجيل يوحنا، إلّا أنه لا يمكن للإنسان أن يصل من خلاله إلى مبدأ واضح، فالنور الذي يحتوي عليه يضيء بومضات سريعة وخاطفة بحيث لا يسمح للإنسان بالرؤية بواسطته.  أستمتع جداً بقراءة لاوتسو وأقدّره جزيلاً كمساعد لي في تعلّم البساطة والتطلّع إلى العالم بحنين إلى البدايات والجوهر، ولكن بدون المسيح سأكون معه تحت رحمة عناصر ميكانيكية العمل، مجهولة وباردة.

وأمّا يسوع فواضح، ويجيد تعريف الأمور لأنه يرى ما يتكلم عنه ولا يتلمّس في الظلام. يسوع لا يبحث، لأنه يعرف؛ لا تشعر بأنه يتساءل، لأن الإجابات لديه. هو الوحيد الذي أشعر به يقول “تعال معي أنا أعلم ماذا أفعل.”

  لست بوارد تقديم الشواهد الإنجيلية المناسبة فهذا ليس بحثاً أكاديمياً، ولكن يسوع يتحدّث بثقة لا تضاهيها ثقة، يتحدّث بلسان شخصٍ تجاوز مرحلة البحث؛ يتحدّث بلسان منتصر أنهى معركته فيقول “أنا قد غلبت العالم”؛ يقدم نفسه كراعٍ لقطيع، يقف في المقدّمة ويموت من أجل قطيعه.  العالم اليوم يكره مبدأ الراعي والقطيع لأنه عالم متفكك وفردانيّ حتى الانحلال، ولكنه يكره هذا المبدأ لأنه لم يلتقِ براعٍ أو زعيم يقدّم نفسه للموت طوعاً من أجل رعاياه.

عندما يتحدّثث يسوع عن الله يتحدّث عنه ككيان حنون ومتعاطف وليس مجرّد قوّة منظّمة.  مهما أنكرنا فنحن بحاجة للشخصانية في التصوّر الإلهي، لا بل أنه لا يمكننا الشعور بكامل جوانب الألوهة بدون العنصر الشخصاني، لأننا أشخاص.  نريد أن نشعر بالحبّ الأبدي وبالحنان الدائم وبالتعاطف الصادق الذي لا يتبدّل.  أليس هذا ما نبحث عنه طوال حياتنا؟  هذا هو نحن، ولا فائدة من الإنكار!

عندما يتحدّث يسوع مع نيقوديموس عن الخلاص والولادة الثانية يقول له بثقة انه يتكلّم بما يعرف ويرى ولا يتكلّم على سبيل التكهّن.  لن نرى هذه الثقة عند الآخرين، هذه الإطلاقية، وهذا التمركز الواثق والمتّزن حول شخص المتكلِّم. 

أمّا الصلاة بالنسبة ليسوع فلم تكن مجرّد تأمّل في انتظار شيء غامض، بل هي اتصال واثق مع هذا “الآب” الذي يسمع ويتحنّن.  الصلاة ليست مجرّد انتظار لطاقة إلهية تأتي بناءً على تقنية ما. 

ولكي أكون واضحاً، لا يمكن أن ننكر أنّه ربما كان هنالك تقنية ما وأنّ الصلاة جزء من ميكانيكية ما مصمّمة مسبقاً، ولكن الأهم في هذا هو عنصر “التحنّن”، فنحن لا نقف في حضرة منظومة جامدة، إنها منظومة تعقل وتتحنّن، وهذه العقلنة والتحنّن هي ما نسمّيه “الشخصية”، وهذا يعطي ثقة أكبر بأننا نقف أمام إله يحبّ ويتحنّن ويتعاطف ويهتمّ…هنا بيت القصيد، هنالك من يهتمّ، وليس فقط من يدعو للبحث.  هو يدعو للبحث، لأنه يهتمّ، ولأنه يهتمّ فهو لا يقف جانباً، بل يرافق ويحمي وينتشل.

الآخرون بعضهم يهتمّ بتحفيزنا على البحث، وهذا شيء رائع وفذّ، وبعضهم يهتمّ بمصلحة أمّته ودينه والخير الأعلى لجماعته، وهذا شيء جيّد من بعض النواحي.  ولكن هذه الأمور لا تكفي، لأننا لسنا في امتحان معلومات، ولسنا في مسابقة فكرية، بل الأمر يتعلّق بمصيرٍ وجوديّ لا يمكن أن يجزم بشأنه سوى من يعرف كامل الحقيقة، لأن أيّ شخص غيره لا يمكن أن يهتمّ حقاً بمصير الآخرين هنا أو في العالم الآخر، لأنه لا يقدّر هول الكارثة الإنسانية بكامل أبعادها ومآلاتها.  يسوع وحيداً يتحدّث عن الخروف الضال الذي يجري راعيه لكي يجده فيفرح ويحتفل، ويسوع فقط مَن يصوِّر سماءً تبتهج فرحاً بإنقاذ أيّ شخص من الضياع.

هنالك تحنّن وفرح واهتمام، وليس مجرّد تحفيز على رحلة على شكل ضربة حظ قد تصيب أو تخطئ.

الآخرون يريدون لك ان تنطلق في رحلتك بدون أن يهتمّوا بنهايتها، ولكن يسوع يهتمّ بالنهاية لأنه يعرف كامل الحقيقة، ويتحدث لأنه رأى وعرف وأدرك، كائناً في أحضان الألوهة، ساكناً فيها، وعائداً إليها.  هذا ما يجعله معلّماً لا يُقارن، هذا ما يجعله لا يُضاهى في نظرته للإنسان والوجود.

هذا ما يجعله إلهاً دوناً عن الآخرين!

الإعلان

2 comments

  1. مقال ممتاز و يلخص رحلة بحث طويلة و مهمة…

    نصيحة على الهامش : لا تتسرع و انتبه للأخطاء الإملائية و القواعدية لأنو مرات بتغير المعنى أو بتأثر على بنيان المقال و وضوحه ككل…

    • شكراً صديقي سامر
      ممنون لملاحظتك…فعلاً هلأ صلحت أحد التراكيب التي أضفتها بسرعة بعد انتهائي من المقالة فلم أنتبه لها.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.