قهر أبناء الريف وذكريات من صافيتا


بقلم فادي أبو ديب

DSC00749 DSC00752

أبناء الريف هم أكثر الناس عرضةً للنَّقّلات العنيفة في حياتهم؛ فقراهم غالباً ما تخرّب صورة نفسها بنفسها من جرّاء قانون التطور العمراني فتمّحي ملاعب طفولتهم وتُمزَّق الصُّور التي شكّلت عالمهم الذي تغذّوا منه ونموا بتّصال شرايين أرواحهم به بشكلٍ لا ينفصم.  كما أنّهم غالباً ما يضطرون إلى هجرها لأنّ لا عمل فيها ولا مورد للحياة  الكريمة فتبقى ومضاتٌ منها تسكنهم حتى الممات.  ومضات تشير إلى ماضٍ لن يعود لأنّ كثيراً من عناصره ماتت أو تشوّهت أو تغيّرت إلى غير رجعة.

بالنسبة لي، مئات الذكريات من صافيتا تشكِّل عالماً كاملاً لا تنفّك روحي جائلةً فيها تطوف على كلّ معلمٍ من معالمه لتلقي عليه السلام وتضمّه بكلّ كيانها.  عالمي هذا يتألّف من مناطق ربما دمّرها العمران تماماً، ومن مناطق أخرى أخاف أن تدمَّر، ومن أماكن غيرها ما زالت موجودة ولم يعد هنالك سببيلٌ للوصول إليها. هنالك أيضاً العديد من الذكريات التي تأتي لي بصور ولمحات جميلة ولكنها تثير الغصّة لأنهٍ لم يعد هنالك إمكانية للعودة إليها من نفس شخوصها لأنهم ذهبوا وفرّقت بيننا الأيام.

وديان، أشجار زيتون وتين، طرق غريبة في الوادي، أشخاص ابتعدوا وأُبعِدوا، كبار في السنّ أقعدتهم الأيام، براءة في داخلي أنا نفسي تخرّبت بفعل هذا الوعي الملوَّث للعالم.

“حاكورة الختيار”…”الشكارة”…”قبر الزير” وعمّو كمال في سنّ المراهقة، والعائلة والأقارب في الطفولة والشباب…

“تمّ الحوت”…”التنور”…”المزرعة” وشجر الكينا…”عين الشرقية”…وغيرها من مناطق وثنايا وزواريب الوادي التي لا أعرف اسمها.

“الملعب” والذهاب الدائم إليه مع “الأستاذ ابراهيم”، هذا الملعب الذي كان طرفه البعيد في طفولتي يشكِّل بالنسبة لي بداية عالم البراري الغامض والبعيد عن كلّ شيء.

الرحلات في عمر الأربع سنوات إلى الوادي محمولاً على أكتاف “عمو بسام”، والتي لم يبقَ منها إلّا صورة واحدة كالحلم…

جارتنا “هيلانة” التي يقول وجهها أنّ عمرها ألف عام، من عمر أيّ شجرة بلّوطٍ في هذا الوادي…

“إبليس” تلك الحشرة  الإسفنجية الغريبة الصغيرة التي كنا نحفر أرض الملعب لننتشلها…

“بو صميلة” بوجهه المبتسم من دون سبب على درّاجته!

البلّان وهي نبتة لا داعي لوجودها بالنسبة لطفل بالكاد يشقّ طريقه في البرّيّة…

الأفاعي التي تصادف الجميع فأحسدهم لأنّي لم أصادفها ولا مرّة!

شجيرات الدّيس الذي كان بالنسبة لنا مقرّ كلّ حيوان خطير! 

المكتبة في دار جدّي والتي كلّما كنت أقف أمامها في ذلك الركن المنزوي من البيت شبه الفارغ أشعر وكأنّ كل حكماء العالم يحدّثونني. 

القوس والسهام التي كنت أصنعها خلال طفولتي من أغصان الرّمّان مع أصدقائي وأقاربي…

شجر السنديان والبلّوط الكبير في أسفل الوادي وفي بعض منعطفاته، والدوّام الذي لم أستطع النيل منه فنالني بمرارته بسبب قلّة خبرتي بمواسمه.

هذه الذكريات ومئات غيرها تعود في كلّ حين لتداعب مخيّلة أيّ من أبناء الريف من أمثالي، ولتجعل روحه لا تعرف الإستقرار أينما ذهب، فجسد هذا الفتى وروحه ليست هذا الجسد الضئيل نفسه الذي يمتلك، بل هو كل حبة تراب وغصن شجرة وصوت طائر غريب وخطر داهم في البراري وصخرة ثابتة منذ مئات وآلاف السنين عند كلّ قمّة…روحه ليست روحه فقط بل روح الأسلاف وأغاني القدماء والأجداد التي ما سمعها بأذنه بل بروحه وتخيّلها بقلبه وعاشها بجوارحه، حتى أحلامه ليست أحلامه لوحده بل أحلام مجتمع وأحلام فقراء لم يمتلكوا سوى الحجارة والتراب والاخضرار الأبدي.

ابن الريف هو هذه كلّها وأكثر من هذه…روحه تكاد تعانق السّماء لأنّه لا يحبّ السّجون ولا الأمور المصطنعة، ومهما تغرّب تبقى روحه تطوف في تلك الأماكن، التي كلّ جماد فيها ليس أقلّ من شخصٍ ناطق يتحادث معه مرّة بصمت لاواعي ومرّة بخيالات جميلة محمّلة برجاء العودة والاندماج. 

وحدها هي عادت إلى أحد أماكن طفولتي فنزعت منه زهرة وزرعتها شجيرة على أكتافي المحمّلة بكلّ الأثقال…هي العلامة بأنّ الجمال لا يموت وأنّ ما نرتبط به عند مولدنا سيبقى معنا متجدَّداً إلى الأبد.

   

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.