لعلّ أكبر التحديات التي تواجه الإنسان المعاصر هو الثقة بوجود الله اولاً، ومن ثم الثقة بصلاحه وكونه مصدر الخير والنور الذي لا تشوبه ظلمة. فالأحداث الحالية، وخاصةً في منطقة الشرق الأوسط، تكاد تكون غير قابلة للاستيعاب بالنسبة لمن يراقبها أو يحاول توقّع النتائج المتمخّضة عنها.
يقدِّم لنا سفر رؤيا يوحنا صوراً عن ردّة الفعل البشرية المتوقَّعة عند حدوث المصائب والنوازل العظيمة، حيث يبيِّن ردّة فعل الناس نتيجة إحدى الكوارث التي تحلّ بالأرض (ولن ندخل في مسألة تقرير حرفية الكارثة أو رمزيتها)، فيصوِّر الموضوع كما يلي:
“ثم سكب الملاك الرابع جامه على الشمس، فأُعطِيَت أن تُحرق الناس بنارٍ، فاحترق الناس احتراقاً عظيماً، وجدّفوا على اسم الله الذي له سلطانٌ على هذه الضّربات، ولم يتوبوا ليعطوه مجداً.” (رؤيا 16: 8-9)
ويبدو غريباً للوهلة الأولى عدم صراخ الناس طلباً للإنقاذ رغم أنّهم وكما يبدو يعترفون بوجود الله، وهذا يدلّ على تشوّه صورة الله بالنسبة لهم. ولعلّ هذا ما يحدث الآن بين الناس في هذا العصر بسبب كثرة الكوارث، والتي يستطيع كلّ شخص على الرغم من تأثره الوجداني والعاطفي، أن يعترف بالتحليل المنطقي أنها ناجمة عن سوء أخلاق الإنسان وسوء تقديراته وطمعه الذي لا يحدّه حدّ.
ويبدو أنّ هذا التأكيد على قساوة القلب يجد تأكيداً في أكثر من مكان في سفر الرؤيا، فيصف الرسول يوحنا الرائي، أنّ الناس الذين لم يُقتَلوا جرّاء الأحداث التالية للبوق السادس “لم يتوبوا عن أعمال أيديهم، حتى لا يسجدوا للشياطين وأصنام الذهب والفضة والنحاس والحجر والخشب التي لا تستطيع أن تُبصِر ولا تسمع ولا تمشي، ولا تابوا عن قتلهم ولا عن سحرهم ولا عن زناهم ولا عن سرقتهم.” (رؤيا 9: 20-21)
وبالفعل فإنّ هذا هو حال الإنسان اليوم. حالة مؤسفة من الانعدام الكلّي للبصيرة والحكمة، فكلّ هذه الكوارث والمصائب النازلة بكوكب الأرض، سواء كانت حروباً أم أزمات اقتصادية أم تهديدات مستقبلية جدّيّة، لم تنجح في لفت نظر السُّلُطات صاحبة القرار إلى الضرورة الفورية للتغيير الكامل في السياسات والسلوكيات، بل دفعها إلى مزيد من التمرّد والقساوة والغباء الذي يبدو أنّه لا يتناقص بزيادة التقدّم العلمي والتكنولوجي!
كما صوِّر يوحنا العذابات التي تأتي على الناس حتى تجعلهم يطلبون الموت ولا يجدونه (رؤيا 9: 6)، ولكن يبدو أيضاً أنّ هذه الآلام كلّها عاجزة عن جعل الإنسان يصرخ لله ويعود إلى ضميره بشكلّ جدّي وعمليّ حاسم. وبغضّ النظر عن احتمال قدرة صرخات الناس وتغيّر سلوكياتهم على إيقاف أحداث سفر الرؤيا، فإنّ الصورة بشكل عام هي أنّ الناس ليس لديهم أيّ نيّة لمحاولة التغيير أوعلى الأقل العودة عن أفكارهم وممارساتهم ومحاولة اكتشاف طبيعة الله المحبّة، ذاك الذي هو النور السرمدي الذي هو مصدر كل خير وجمال وشغف وحُسن موجود بين البشر.
ومن ناحية أخرى فإنّ يسوع المسيح يتنبأ بوضوح عن أنّ الضيق الذي سيحصل بنهاية الأيام ضيقٌ لم يشهد العالم مثله من قبل ولن يشهد مثله أبداً، ولكنه في نفس الوقت يقول بأنّ ستكون هنالك رحمة لأولئك الذين يتّقون الله ويطلبون وجهه رغم كلّ الضغوطات والأحداث صعبة التصديق، فهؤلاء هم “المختارون” (متى 24: 22) ومن يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص (متى 24: 13).
من غير المطلوب أن يفهم الإنسان كل ما يحصل حوله، ولكن بالتأكيد لا أمل في هذه الظروف والأحداث الكارثية إلّا بالتأمّل دوماً بأنّ الله هو مصدر كلّ خير. هذا الخير ليس خيراً مكتوماً، بل هو ظاهرٌ في حياة الإنسان الذي يتّقي الله، ظاهرٌ في روعة المحبّة وتفاني الصداقة، في هذا السرّ الإلهي الذي يشعّ من عيني كلّ أمّ ترى وليدها وهو ينمو أمامها، وفي كلّ تحوّل مفاجئ في حياة كلّ منا باتجاه ما يتمنّى أو يرتجي، أو باتّجاه يختلف ويفوق كلّ ما يفكّر به. في ساعات الصفاء البعيدة عن الأحداث المتسارعة يعرف الإنسان في داخل ضميره بأنّ الله خير، وكلّما ازداد عنفه في محاولة إثبات العكس يكون هذا دليلاً على الصراع الداخلي بين الضمير الناطق والعقل المحلِّل للمرئيات.
الصراع صعب ومستنزف، ولكن يسوع المسيح تنبأ بوضوح عن صورة العالم المليئة بالكوارث، وتنبأ بأنّ محبة الكثيرين ستبرد كنتيجة لكثرة الإثم والأهوال التي لا تُصدَّق. بالنسبة للناظر إلى يسوع، لا شيء مما يحصل مفاجئٌ فعلاً رغم كل التأثيرات العاطفية والوجدانية المهولة والتي لا يمكن احتمالها عقلياً وعاطفياً أحياناً. لكن يسوع أيضاً كان واضحاً بأنّ من يتّقي الله حقاً سيرى ما لن يراه الآخرون. النور الذي يشعّ من كلماته يسوع المسيح لا يمكن لضميرٍ حيّ أن يقاومها.
التحدّي الدائم هو أن نبقى مؤمنين بالخير وبانتصاره، وأن نبقى عالمين بأنّ للخير مصدراً ذا إرادة محبّة وشغوفة بتتمبمه. سواد الصورة الآن يجعل من شبه المستحيل تصديق وجود عالمٍ آخر مختلف بشكل كينونيّ عمّا نراه الآن، ولكن صعوبة التصديق لا تعني عدم الوجود، فكما أن عدم تصديق مواطن الإسكيمو قديماً وجود عالمٍ آخر غير مغطّى بالثلوج، او عدم قدرة إنسانٍ أفريقي يسكن الأدغال على تخيّل منطقةٍ كالمحيط المتجمد الشمالي، لا ينفي وجود هذه المناطق، هكذا أيضاً فإنّ محدودية رؤيتنا لا تنفي وجود عالمٍ آخر وإرادة تعمل في كلّ لحظة على إحلال مقوّمات هذا العالم الجديد.