استعدادنا للرؤيا…استعدادنا للّاعادي


بقلم فادي أبو ديب

samuel

في أيّام تعجّ بالأحداث التي تبدو فوضويّة عبثية لا هدف لها ولا توجُّه، يكون من بالغ الأهمّيّة أن نبحث عن يد الله في الأحداث بدل الاستسلام للشعور السوداويّ المقيت بالعبثية واللاهدف.  وإن كان هذا العصر يتميّز بالزُّحام الشديد في كلّ مناحي الحياة، مما يدفعنا إلى التفكير بأنّ صوت الله يختفي، فإنّ هذه ليست حالة غريبة وغير مسبوقة؛ فيبدو من الكتاب المقدَّس أنّ صوت الله دائماً ما كان يصبح صعب التمييز، أو يختفي في أزمنة المعصية والاستباحة المنفلتة من أيّ عقال.

يورد الكتاب المقدّس قصّة صموئيل النبيّ الملفِتة للنظر من عدّة نواحي.  فصموئيل النبي في الأساس لم يكن من بيت رئيس الكهنة، لا بل لم يكن من عشيرة الكهنة من الأساس.  وقد كان يخدم أمام عالي الكاهن وابنيه الفاسديْن اللذين أشاعا الفجور والفساد في العبادة الإسرائيلية القديمة، من خلال ممارستهم للفجور العلني في الهيكل، وسرقاتهم المتكرِّرة والواضحة من الذبائح.

وتورد القصّة بأنّه قد “كانت كلمة الربّ عزيزةً في تلك الأيّام.  لم تكن رؤيا كثيراً.” (1 صموئيل 3: 1ب وج)   وما يلفت النظر في هذه العبارات هو مخالفتها لاعتقادنا السائد بأنّ الكتاب المقدِّس يعرض الرؤى والنبوءات كحالة اعتيادية ومستمرة في المجتمع الإسرائيلي، تماماً كما هو الحال في الروايات الخيالية التي تحاول أن تنسج واقعاً خيالياً، حالماً ووردياً، يختلف عن الزمان الحاضر.  ولكن الأمر ليس كما يظهر، فالتواصل الإلهي- الإنساني ينقطع حقاً او يكاد في أزمنة العصيان المستفحلة، حيث لا يبدو أنّ أحداً مهتمٌّ حقّاً بقراءة الأمور على هذا النّحو.

في ذلك الزمان، في زمان الجفاف الرّوحي، والاستفحال المثير للاشمئزاز  للإباحية، كان صموئيل صبيّاً صغيراً يخدم الربّ في الهيكل تحت إشراف رئيس الكهنة الفاسد عالي.  في ذلك الزمان الذي كادت الرؤى أن تنقطع فيه كانت كلمة الربّ لذلك الصبيّ المتواضع الفقير.  في الوقت الذي كان من المتوقِّع أن تكون الرّؤى من نصيب أحد أعضاء السلك الكهنوتي، كانت الرؤيا لصبيّ مخلِص يعمل بصمت.

إنّه التحدّي الأكبر أمام كلّ شخصٍ منّا أن يحافظ على التوقّع برؤية الأمور بطريقة جديدة في زمنٍ بات فيه اليأس سهلاً أكثر من أيّ شيءٍ آخر.  التوقّع يعني فتح الباب واسعاً لما هو غير عاديّ حتى على الرغم من أنّ كل شيء قد يشير إلى أنّ الأمور عادية وروتينية مطبوعة بطابع العبثية والاستمرار الذي لا يتوجّه إلى هدفٍ ما.  التوقّع ليس سهلاً، لأنّه يتطلّب إيماناً، ويتطلّب تواضعاً.  إنّه يستلزم إصغاءًً لما قد يُنطَق في الثنايا المختبئة بين تفاصيل الواقع الملموس للأحداث.

بدايةً، فإنّ الإيمان المطلوب هو الإيمان بأنّ الله يتكلّم، وأنّ لا شيء يجري من غير داعٍ.  لا شكّ في أنّ هذا الأمر من أصعب التحدّيات التي تواجهنا (وتواجهني شخصيّاً) بضراوة وشراسة في عصرٍ يمتّ للوضاعة وقلّة التفكير والسطحية بالكثير.  فتيّارات التفكير الاختزالي والمادّي تجرف الجميع من دون رحمة، بعد أن أحكم سَدَنة المال من غير المفكّرين سيطرتهم على كلّ شيء في كلّ مكان.

ولأنّ للقلب دائماً كلام آخر، فإنّ الإصغاء إليه يكون سلاحاً فعّالاً بدايةً.  فالقلب هو الذي يوجِّهنا للصلاة ولقراءة الكتاب المقدَّس، أو لمحاولة رؤية الأمور من منظورٍ يختلف عن رؤيته بالطريقة العاديّة.  القلب هو الذي يبقى ثائراً في وجه العقلانيّة الصارمة وفي وجه محاولة تعليل كلّ شيءٍ بطريقة تسلب من حياتنا الفرح والأسراريّة.  القلب هو وحده الذي يبقى يبحث ويحاول في الوقت الذي يستسلم فيه العقل للإحباط. إنّه المَلَكة التي توقظ العقل الذي يتمكّن حينها من التفكير الممنهج لمواجهة محيط التفاهة.

صوت الله صوتٌ جديرٌ بأن يُسمَع، لا بل أنّه الصوت الوحيد الذي يستحقّ أن يُسمَع؛ فهو الصوت الذي يوقظنا على أهميّة التغيير، وعلى حقيقة عالم الأفكار المختلفة والجميلة، المليئة بالفرص لكل ما هو جديد.  عندما استقبل صموئيل الهمسات الإلهية قفز من سريره قائلاً “هأنذا”.  في المرّة الثالثة صرخ بحماسة وبشيْ من الوَجَل: “تكلّم لأنّ عبدك سامع”.  ومن نافل القول تبيان غرابة الرسالة الإلهية.  لم تكن من نوع الرسائل التي يسهل تصديقها، لأنّها كانت تحمل أخباراً غريبة؛ فالصبيّ الصغير سوف يصبح ذا شأنٍ كبير.

النكهة الأسطورية للرواية كانت ستبقى أسطوريّة لولا أنّ التاريخ و”الواقع الملموس” يثبتان أنّها تحدث؛ فلطالما كان العظماء هم ممّن لم يصدّقوا المجرى العادي للأمور وآمنوا بحدسهم وبرؤياهم وبأحلامهم، وبذلك الصوت الإلهي العامل في داخلهم.  القليلون الذين غيّروا حياة البشر نحو الأفضل “إنسانياً” و”جمالياً” و”روحياً” هم أولئك الذين لم يصدّقوا الملموس، بل آمنوا بما هو وراءه.  كانوا يسمعون الصوت الإلهي في الوقت الذي كان فيه الآخرون مشغولين بكلّ شيءٍ عاديّ.  هم الذين ربّما صدّقوا حلماً رأًؤْه في منامهم، او كلمة نطق لهم بها عجوزٌ حكيم بدا على هامش القوّة او النفوذ أو السُّلطة.

في الأزمنة التي يبدو فيها صوت الله مختفياً والرؤيا منقطعة، هنالك دائماً فرصة لسماع الصوت وإبصار الرؤيا.  المفتاح لهذه كلّها هو الاتّضاع والتصديق والفِكر المتجاوز للعاديّ.

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.