صار إنساناً لكي أصير إلهاً


بقلم فادي أبو ديب

ch

عنوان هذه الخاطرة الميلادية ليس من بنات أفكاري، بل هو اقتباس شبه حرفيّ لما قاله مرّةً أثناسيوس الإسكندري، وهو إيمان الكثيرين من آباء الكنيسة الأوائل.

في كلّ مرّة يتتوَّه الفِكر في مروج الخيال وفي دياجير ظلام العالم لا يستطيع إلّا أن يعود إلى يسوع المسيح؛ ذلك البارّ الوديع، القويّ المحبّ، البسيط الغريب.  لماذا؟  لأنّ يسوع هو الأمل الأخير!  ليس لأنّه يُعطي أجوبةً على كلّ أسئلتنا، بل لأنّه يُعطينا الثقة بأنّ الله هنا، وأنّ مشيئته ليست من المزاجية في شيء، بل هي حبٌّ فيّاض ليس إلّا.  هذا الشعور بالاتصال الذي لا تنفصم عُراه هو صُلب الخلاص.  وهل يحتاج الطفل من أمّه إلّا الشعور والثقة بحضورها؟  هل يسألها أين كانت عندما تأتي بعد غياب، أم أنّه يجري إليه ويقفز في أحضانها؟

يسوع، الله الظاهر في الجسد، هو أجمل ملاجئنا وأكثرها أمناً وحقيقيةً.  هو الرّاعي الصالح الذي أتى بمحبّته من حضن الآب السماوي.  هذه الأحضان الأزلية برمزيتها الجميلة، التي انطلق منها الابن الحبيب، تُشير إلى مقدار الحميمية التي يريد لها أن تسكن مخيّلة الإنسان تجاه الله.  هذا هو ما فهمه تلاميذ المسيح الأوائل، وهذا ما دوّنه يوحنا أكثرهم قُرباً إلى قلب يسوع وذهنه،  يسوع الذي أخبر المساكين بالروح بألّا يخافوا (وهم القطيع الصغير الوديع) لأنّ الآب سُرّ بأن يُعطيهم الملكوت.

هو الذي يُصوِّر نفسه كالراعي الذي يحمي الخراف.  صورة الخراف ليست بصورة القطيع المتراصّ الذي تدأب على تصويره ماكينات الإعلام الحديثة، بل هي صورة المرج الواسع الذي تتحرّك فيه الخِراف بأمان في حين يجلس راعيها تحت شجرةٍ بعيدة يراقبها بحبور وفرح.

يسوع المسيح هو مخلِّصنا من القواعد والشرائع القاتلة، وهو بوّابة الحريّة المتألِّهة.  بيسوع- كما يقول بطرس- نصير شركاء الطبيعة الإلهية.  ندخل إلى تلك الحميمية الأزلية بين الآب والابن.  فمن يحبّ يسوع يأتي إليه برفقة الآب فيصنعان منزلاً في قلبه. 

كيف يكون هذا المنزل، وكيف يُبنى؟  إنّه يُبنى في المخيّلة المقدّسة، المسكونة بثقةٍ خفيّة  بحقيقة هذا الارتباط.  إنّه حدسٌ غريب يتواصل بفعالية مع تحنُّن يسوع على البشرية، ويثق بأنّ هذا التحنُّن لا يصدر إلّا من قدرة متمكِّنة عارفة.  يسوع المسيح لا يمكن إلّا أن يجذب كل متأمِّلٍ فيه.  هو معلِّم يرى في نفسه كرمةً نضِرة وتلاميذه اغصانها التي تمنحها جمالها.

يسوع هو مَن يقلب القاعدة فيُعلِن بقوة وثقة بأنّ الخلود والهناء الحالي والمستقبلي هو للمتضعين والمساكين بالروح والحزانى والودعاء والجياع والعطاش للبرّ والكمال.  هذه السعادة التي تأتي من خلال الاستنارة الداخلية والتمتُّع بالروحيات التي لا تقتصر على أسلوبٍ أو شكل أو تعليمٍ، بل تفرح فقط بمعرفة الآب السماوي وحنانه السرمدي.  يسوع المسيح  هو الذي أعلن بأنّ في عالمه الجديد يكون السيّد هو الخادم، وأنّ كل بني الإنسان مرحَّبٌ دخولهم إلى هذا العالم،  فتح بذلك الباب إلى مفهومٍ جديد ونظرة مختلفة جذرياً للعلاقة مع الذات الآخر.

لماذا تجسّد المسيح؟  إنّه سرٌّ ولا ريب!  ولكنّه سرّ ينجلي قليلاً إن فكّرنا في أنّ التجسّد حصل ليُلاشي الحيرة بشأن صورة الله ومحبته؛ ليُزيل الخوف البشري من الثواب والعقاب، لمنح الحريّة والفهم والشجاعة.  لنقض المعارف السابقة عن الله ولفتح صفحةٍ جديدة تقوم على العائلية الحميمية.

أن أصير إلهاً يعني أن أنمو في محبة الله والإنسان، أن أحبّ الأنا لحدّ المعرفة بأن جمالها ووجودها الحقيقي يكمنان في عدم انتفاخها، وأنّ التحابب مع الآخر يصقلها ولا يُلاشيها.  هكذا يكون إيجاد النفس في إهلاكها.  المسيح أعطى المثال الصالح بأنّ مَن يعيش ملء الحياة الحرّة من التشريعات الدينية البالية والحرية العالمية المزيّفة لا يخسر أبداً، وأنّ مَن يضحّي طواعيةً لا يمكن إلّا أن يزداد عمقاً ومعرفةً.  قيامة المسيح دليل على قيامتنا المعرفية، على انتقالنا من طور الجهل (المخدوع بالمعرفة الزائفة عن الله) إلى طور المعرفة (التي تجهل كلّ ما هو زائف) فلا تعرف إلّا أنّ الله محبّة وتحنُّن.

تجسّد يسوع هو الأمل بأنّ بعد الصمت والشواش تأتينا الكلمة؛ فبعد كلّ الشواش والتضارب في التاريخ الإسرائيلي، وبعد الصمت الطويل، تأتي الكلمة لتُشرِق نوراً من الظلمة، وليُعلَن بأنّ المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام وفي الناس المَسَرّة.  هذا التكلُّم بعد الصمت والشواش لمحةٌ عن التكلُّم التالي في المجيء التالي بعد كلّ هذا الشواش المسيطر وبعد هذا الصَّمت الطويل.

التجسّد هو الإشارة الواضحة إلى أنّنا نسكن تاريخيْن، وأنّ تاريخاً آخر يجري بخفية بين ثنايا وجودنا وأنّه سيُستَعلَن بوضوح في المستقبل، وأنه من دواعي سرورنا أن نراقب الإشارات ونستمتع بكلّ بركة وأن ندرك كلّ لمسة إلهية في الأحداث.

التجسّد يعني أنّه لا حدود لتطرّف الله في سعيه نحو الآخر، وأنّ هذا النوع من التطرُّف ينتصر، فلماذا لا نكون متطرِّفين ومنتصرين؟

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.