الديانة شبه العقلانية: الوجه الآخر للأصولية الدينية
بقلم فادي أبو ديب
تخيّلوا لو أنّ شخصاً ما يخلع على نفسه صفة المفكِّر أو الباحث يخرج إلى العلن ليصرِّح تصريحاتٍ غريبة من قبيل: “إنّ فلسفة سبينوزا فاشلة” أو أنّ “كتابات هيغل سخيفة” أو أنّ توما الأكويني امتلك “عقلاً ساذجاً” أو أنّ روايات أمين معلوف مثلاً “تتميّز بالترويج للفكرة الفلانية”! بالتأكيد أنّ أوّل ما سيُواجَه به هذا المدّعي هو السؤال عن مدى دراسته وتعمّقه بكتابات هؤلاء وبفكرهم وبالخلفية الثقافية والحضارية التي كتب فيها كلٌّ منهم، وبالتأكيد ستُوجَّه له النصيحة بأن يعرف الفِكر الكامل لكلّ منهم قبل أن يتجرّأ على إطلاق أحكام عامة على المذهب الفِكري ككلّ لهذا الفيلسوف أو ذاك.
للأسف فإنّ هذه المواجهة الصادقة لمن يجرؤ على وصم مذهبٍ كامل بوصمة معيّنة لا تُطبَّق في حال الحديث عن مذهبٍ دينيّ أو لاهوتيّ (وما هو إلّا نسق فِكري أو فلسفي بصورة أساسية)، فلأنّ الدّين على ما يبدو ممكن الاعتناق من قبل الجميع، يصبح للجميع حقّ إطلاق صفات عامّة عنه. فترى مثلاً مَن ينتقد “المسيحية” أو “اليهودية” أو “الإسلام” من دون أدنى رادع من فِكر أو وازعٍ من إدراكٍ فلسفيّ للقصّة الكبرى لكلّ منها ولسياقاتها الحضاريّة في كلّ مرحلة.
الحركة العَدَميّة الجديدة في العالم، ووريثتها الصغيرة الناشئة في العالم العربي، والتي خانت إرث العقلانية التنويرية والفلسفة الجادّة- هذه الحركة تسمح لنفسها بتربية أعضاء لا يهتمّون في التعمّق في تاريخ الأفكار الميتافيزيقية، ولا بقواعد المنطق الضروري للفِكر، ولا بتاريخ الفكر اللاهوتي، بصورة جادّة، فهذه الدراسات كلّها تتطلّب جهوداً مريرة وجدّيّة عميقة، وأكبر قدرٍ ممكن من الموضوعية التي يمكن للإنسان أن يحصل عليه. الحركات التي تلبس لبوس العقلانية اليوم تكاد لا تعرف شيئاً عن ديكارت وسبينوزا وكانط وروسو وفولتير، وهي تعيش في وهمٍ عقائديّ بأنّ التنوير الأوربي تمّ بنفي الدين وإخراجه من المعادلة، وهذه أكثر الخرافات شعبيةً في يومنا هذا، وخاصةً بين الجديدين على عالم الفِكر.
التنوير الأوربي تمّ بخطواتٍ تدريجية غالباً، حيث تحاورت الفلسفة مع الدين، وبدأت العقلانية تتطوّر مع بزوغ الاكتشافات الجديدة وتنبّه الإنسان إلى البحث النفسي والتطوّر الوجداني وأهميته في فهم الدين بطرق مختلفة أكثر مخاطَبةً للإنسان العامّيّ الذي يواجه الوجود ومشاكله بخوف وانعدامٍ للأمان.
معظّم مبشّري اليوم بالإلحاد الجديد وبشبه العقلانية ليسوا من الفلاسفة المتمكّنين، بل من غير المختصّين بالفِكر وثناياه و”زواريبه”؛ هم من الذين أرادوا أن يوفّروا على أنفسهم عناء الدراسات الفلسفية والمنطقية الطويلة في سبيل التنعُّم بنتائج شبه جاهزة منبثقة من اختصاصاتهم في البيولوجيا أو علوم الأعصاب أو الفيزياء الكلاسيكية، تمنحم شهرةً مغرية بين أوساطٍ شبابية لا تملك الوقت أصلاً للدراسة الجادّة العميقة التي تأخذ الكثير من الوقت والجهد، وتفرض عليهم ضريبةً كبيرة في المجتمع.
لماذا يجد الكثيرون متعةً في الحكم على الكتاب المقدَّس مثلاً ككلّ، وأنا أجزم أنّ أغلبيتهم الساحقة لم تقرأ معظمه، وبعضهم لم يقرأه بتاتاً؟ لأنّها ببساطة من متطلّبات العقائدية شبه العقلانية الصارمة والمتزمّتة. إنّ دراسة فلسفة الدين والتاريخ العقائدي والأخلاقي للمذاهب والأديان والأنساق الفلسفية تتطلّب دراسة عميقة للتاريخ والمناخات النفسية والاقتصادية التي كانت موجودة في كلّ حقبة من الحِقَب. وإنّ ما يمارسه دعاة الدين شبه العقلاني الجديد هو تكرار ممتاز لدعايات الفرق الدينيّة المتعصِّبة بكافّة أشكالها، من حيث حكمها على الآخر من دون أن تسمع منه أو تدرسه وتتفكّر في دوافعه وأهدافه والحتميّات التي قد تكون قد فرضت عليه شيئاً في زمانٍ ومكانٍ معيَّنيْن. ما وجه الاختلاف مثلاً بين شابّ من أتباع شبه العقلانية وبين قاتل فرج فودة أو طاعن نجيب محفوظ من حيث امتلاك الفِكر النقديّ؟ ببساطة لا شيء، باستثناء أنّ الثاني نشأ في بيئة ثقافية تمكّنه من الهجوم اليدوي على شخص ما، وهذا لا علاقة له بكون متديّناً بقدر كونه ينتمي لثقافة بدائيّة قد نجد مثلها في الوثنيات الآسيوية والإفريقية، لا بل وفي كلّ الأنظمة الشمولية “الإنسانويّة” كالنظم الشيوعية اللينينة والماوية مثلاً.
من دون دراسة السياقات لا يمكن فهم أيّ شيء، حتى عبارة “لا تقتل” قد تكون دعوةً لعدم القتل في سياقٍ معيَّن، وقد تكون دعوة زعيم عصابة لأتباعه لكي لا يقتلوا في سبيل أن يستمتع بالتعذيب.
بشكلٍ عام، لا يمكن أن ننكر أننا نعيش في عالمٍ يفتقر سكّانه في معظمهم للرغبة في الحكم الدقيق وفحص الذات ومحاولة فحص البدائل الممكنة لكلّ ما ينتقدونه. نواجه هذه الحقيقة في كلذ مرّة نحاول أن نقرِّر من هو المحقّ بين الجناحين المحافظ والمتحرِّر لأيّ مذهبٍ فكري، حيث يرى الدارس الجادّ بأمّ العين والقلب كيف أنّ لكليْ الجناحين نقائصهما وعيوبهما الخطيرة جداً، والتي قد تُفضي إلى نتائج لا تُحمَد عُقباها على المستويات كافّةً.