التوجُّه الحداثي الذي ابتغى اختزال رسالة المسيح إلى رزمة من الأوامر والنواهي الأخلاقية ليس سوى توجُّهٌ عدميّ حين يقوم بإزالة الجانب الميتافيزيقي من رسالة يسوع المسيح. والهوس الحديث بالأخلاق ككتلة من القوانين والأنظمة الناظمة لحياة المجتمع والإنسان الفرد تحكم على نفسها بالفشل والدوران في حلقة مفرغة حين تنكر البُعد المثاليّ كحقيقة وجودية قائمة في عالمٍ فائق متجاوزٍ لحيّز الوجود الملموس والمدرَك بالوسائط الحسّيّة والمنطقيّة الاعتيادية.
كتلة النظم الأخلاقية مصيرها الفشل لأنّها دوماً تفشل في الإجابة عن السؤال المتعلِّق بالمعنى والغاية. فما القيمة من كل الأخلاق إن كان العالم عشوائياً وليس هنالك من حقيقة متجاوزة للعالم الحاضر؟ خير الإنسان؟ ومن قال أنّ الخير غاية إن كان العالم ذاهبٌ بوجهه نحو الفَناء؟!
في الحقيقة فإنّ معظم الكلام الذي يدور حول الأخلاق بعيداً عن البُعد الماورائيّ هو كلامٌ يفتقر للمصداقية مع الذات؛ فكل شيفرة أخلاقية تستند إلى قناعة ميتافيزيقية معيّنة. بعض هذه القناعات الميتافيزيقية تعترف بوجود كينوناتٍ عاقلة تتجاوز البُعد المرئيّ، وبعضها الآخر يقرّ بوجود مثالٍ ميتافيزيقيٍّ عَدَميّ أو عشوائيّ. الطرفان “مثاليّان” بشكلٍ أو بآخر، فالأول يقول بوجودٍ مثالٍ عاقل، والثاني يؤمن بأنّ هذا المثال السابق غير موجود، وبالتالي فإنّ الموجود هو مثال عشوائي يسير الموجود بحسبه، أي شيء لاموجود يسير الموجود بحسبه.
لذلك فإنّ الشرائع الأخلاقية كلّها من دون فائدة إن افتقرت لتبيان الغاية التي تمسّ الإنسان في صلب وجوده. كلّ غاية خارجة عن وجوده هي صنم. “الأخلاق موجودة لكي يرضى الله” هي عبارة وثنية لأنّها لا تمسّ كينونة الإنسان نفسه، لأنّ غاية الشيفرة الأخلاقية هي إيصال متلقّيها إلى صورة مثالها الأصلي، وليس إخراج الإنسان من المعادلة لمصلحة المثال الأعلى. إذن إنّ غاية الأخلاق دفع الإنسان إلى تجاوز واقعه إلى واقع آخر، غايتها هي نفي المحدودية التي يظنّ الإنسان أنّه عالقٌ بها.
من أوّل ما نطق به المسيح في إنجيل متّى “كونوا كاملين كما أنّ أباكم الذي في السماوات هو كامل”، وهذا الطَّلَب يحتوي ضمنياً على دعوة لتواصل علاقاتيّ بين الإنسان والمثال الأعلى المتحنِّن والعاقل، بين كينونتين، واحدة تقترب من الثانية، لكي تنجذب الثانية إلى الأولى. حالة الكمال الموجودة في هذا الجانب من العلاقة تحفِّز تجاوزاً للمحدودية في الجانب الآخر. الكمال هنا ليس عدم الخطأ، فالخطأ كثيراً ما يكون نسبياً فيما يتعلّق بالنشاطات، ولكنه التخلُّص من قيود المحدودية الروحية التي تُمحِور الكيان الإنسان حول ذاته وتجعله مقتنعاً بعدم إمكانيته للخروج من اليأس العَدَميّ.
الكمال هو الغرق في محبّة الوجود والثقة بأنّه مكانٌ منفتح دوماً لتجلّي الجمال الإلهي بحيث يكون الإنسان شريكاً لله، ومع الإنسان الآخر، في صنع الجمال، بحيث يُفعِّل الإنسان مرّةً أخرى صورته الإلهية الخالقة التي خُلِق عليها ومن ثم نسيها بالسقوط، راضياً بأنّ يلخِّص الله في مجرِّد “معرفة الخير والشرّ”.
الدعوة للكمال على نمط الكمال الإلهي ترتبط عضوياً بتطويب المسيح لصانعي السلام كونهم يصبحون أبناءً لله. البنوة لله هي شراكة في طبيعة الله…هي إذن كمالٌ على نمط الكمال. فالسلام الذي يمكن أن يصنعه الإنسان في العالم ليس إلّا انعكاساً أكيداً وحتميّاً لتصالح الإنسان نفسه مع ذاته، مع صورته الإلهية، ومع الله بالضرورة، أي مع المثال الأعلى المتحنِّن والعاقل.
والمسيح كصانعٍ للسلام وكأعلى مثالٍ للمحبّة التي ذهبت إلى الموت طواعيةً تجسيد عمليّ للبنوّة الحقيقية لله، ليست بنوّةً اعتبارية رمزية تفتقر للوجود، بل بنوّة تخرج من صلب جوهره، فالتوافق مع المثال الأعلى يتمّ بطريقة واحدة هي التحوّل والصيرورة، ولكن هذه الصيرورة لا تحدث بدون رؤية المثال الذي ستتصيّر على شاكلته. المسيح كان هو هذه الصورة المحفِّزة، هو تنازل المثال الأعلى المتحنِّن والعاقل ليأخذ هيئة الصورة الإنسانية الغافية على كتف الإنسان، والتي صنعها على مثاله.
الكودات الأخلاقية لا تنفع، لأن التوافق مع طبيعة معيّنة يستلزم بالضرورة طبيعة موافقة لها ومتناغمة مع جوهرها. لا ينفع الإنسانية مسيحٌ نبيّ رغم أنّه قام بدور النبوّة كبشيرٍ ونذير، فالإنسانية عندها مئات الأنبياء. ولا ينفع المسيح إنسانية تزاحمت على حجارتها نقوش اللوائح الأخلاقية، فالقوانين والنظم لها بيئة وزمان قد تموت بعد مضيّهما.
الإنسانية كانت تحتاج تغييراً في طبيعة وجودها وغايتها، من الوجود المحدود اليائس في قبضة الزمان والمكان والقدرة على الصيرورة، إلى وجودٍ آخر غير محدود يعلم أنّه يستطيع أن يغيِّر بالمحبة كلّ الوقائع والإمكانيات. الإنسانية كانت تحتاج لتجسّد المثال الأعلى لكي يجذبها نحوه…لكي تتألّه.