ليس جديداً الاّدعاء بأنّ المنهج العقليّ الفلسفيّ الذي يهدف إلى فحص طبيعة الأمور الروحية والأخلاقية والاجتماعية هو مخالفٌ للبساطة وأنّه من النوافل التي لا حاجة لها. ولكنّنا ربّما نشهد أكثر العصور وحشيةً تجاه التفكير التأمّلي الفلسفي في ماهيات الأمور وظواهرها والعلاقة بينهما، وذلك من جرّاء وجودنا في عصرٍ استهلاكيٍّ يساوي بين الأشياء بسبب أنّه يخضع للنسبية المطلقة (يا لتناقض هذا المصطلح، وهو واقعٌ موجود!)، ولا يُقيم وزناً إلّا للراحة والرّفاهية والسّطحيّة، حيث أنّنا بتنا نميل جميعاً لأن نحصل على النتائج والمعارف بكبسة زرّ.
فمثلاً يُقال بأنّه يمكن ببساطة وتلقائية معرفة السلوك الأخلاقي المناسب للإنسان، ولكن ألا يجب من خلال التأمّل الفلسفي (العقلي والحدسي) أن نحدّد أوّلاً ماهية الأخلاق ومما تنبثق؟ هذا يتطلّب بالطبع التفكُّر مليّاً أيضاً في طبيعة الإنسان وماهيته، ودعم ذلك بالنقاش والجدل والملاحظة ودراسة التاريخ والحاضر. فادّعاء البساطة مُغرٍ، لأنّه مرتبط بيوتوبيا تسكن المخيّلة البشرية عن عالمٍ متناغمٍ يحكمه الضمير، ولكن هذا ليس واقع الحال، ولا يوجد ما يشير إلى أنّ هذا الحال كان موجوداً على نطاق واسع في زمنٍ من الأزمنة المعروفة والمؤرَّخة.
بالإضافة إلى ذلك يجب التفكُّر والتأمُّل في ماهية المعرفة؛ فكيف نعرف، وكيف نعرف أنّنا نعرف؟ هل الواقع الاختباري يُشير إلى قدرتنا على المعرفة الموضوعية أم أنّنا محكومون بتحيّزاتنا الشخصية؟ هل يمكن التخلّص من التحيّزات الشخصية أم أنّ هذا غير ممكن؟ هذا بالضرورة يدفع إلى دراسة النفس البشرية وأطوارها وتقلّباتها وعلاقتها بالوجود والمجتمع البشري، وقبل كلّ شيء علاقتها مع ذاتها.
وحتّى عند الحديث عن الحدس أو البديهة البشرية لا يجب أخذ الأمور بهذه التلقائية؛ فهل الحدس قادرٌ على حكم حياة الإنسان دائماً دون الحاجة إلى التفكير المنطقي؟ هل يمكن للحدس أن يحكم دوماً في القضايا القانونية المعقَّدة مثلاً؟ في الواقع لا يمكن للحدس أن يقوم بهذا الدور، فالمنطق العقلي ضروريٌّ أيضاً في الحكم على الأمور. فالحدس لوحده لا يمكنه أن يجعل الطبيب يحزر علاج مريضٍ من دون تشخيصٍ عقلانيّ مرتبطٌ بنتائج علميّة تجريبيّة، ولا يمكن أن يُعتمَد عليه لوحده في الإخلاص للعلاقة الزوجية مثلاً، لأن التشويش الحاصل في الواقع قد يجعل البديهة البشرية معوجّة ولا تتصرّف بحسب المحبّة والخير للآخرين وللذات نفسها.
يجب إذن التفكير بعلاقة الحدس مع العقل، وإن كان هو أحد المَلَكات العقلية أم أنّه مَلَكة مخالفة له، وكيف يمكن تحقيق الانسجام بين العقل والبديهة، بين المنطق والشعور. هذا بالضرورة يقود إلى التفكير في ماهية العقل البشري. كثيرون يتحدّثون عن ضرورة اتّباع العقل، ولكن قليلون يتفكّرون في ماهيته؛ فهل العقل هو أحد فاعليّات الروح كما يفترض بعض الفلاسفة، أم أنّه الروح نفسها، أم أنّه فاعلية دماغيّة مادّيّة بحتة كما يذهب البعض الآخر؟
إن كان هنالك ما يشير إلى أنّ العقل خارجٌ عن المادّة وليس نتاجها فهذا يفترض أنّ له علاقة بالرّوح، وإن كان الأمر كذلك فاتّباع العقل يفترض أكثر من فحص بعض القضايا المادّية، بل يتطلّب دراسة المشاعر والحدس وماهية الضمير، بالإضافة لدراسة الدّين واللاهوت لمعرفة إن كان يمكن الثقة باستقامة العقل من كلّ النواحي أم حاجته لشيء آخر، كالاستنارة مثلاً التي تتحقّق بوسائل تتجاوز التفكير المنطقي المباشر.
كلّ هذه الأمور إذن تتطلّب تعريفات، فحتى لو اتّبعنا الاعتقاد القديم بأنّ النفس البشرية حائزة على كلّ المعارف، فإنّها ما تزال بحاجة إلى التأمّل العقلي الفلسفي (العقلي لا يعني العقلاني الجاف، بل كلّ ما يختصّ بالتفكير المنطقي والحدسي والشعوري) لكي “تتذكّر” ما تعرفه، كما أنّها بحاجة للتفكير الانعكاسي وفحص الذات لكي تتخلّص من التشويش وتعيد للحقائق بريقها وضوحها المفقود نتيجة التشوّهات العيدة الناتجة عن المجتمع والسطحيّة الجماعيّة والمعتقدات الخاطئة.
معظم من تحدّثوا عن البساطة بطريقة ما كانوا فلاسفة، ومن فرط تأمّلهم الفلسفي توصّلوا للبساطة؛ فالبساطة مثل زيت الزيتون الصافي لا يمكن الحصول عليها إلّا بالتصارع مع الأفكار وعصرها ومزجها، فبعد الترحال الطويل بين ثنايا العقل ودفقات المشاعر، بعد التجوّل بين مناطق النور والظلمة وما بينهما- بعد كلّ هذا تحلّ البساطة في النفس البشرية. لاوتسو حكيم الصين العظيم، و”منظِّر البساطة” إن صحّ التعبير، كان فيلسوفاً بشكلٍ ما من الأشكال، ومَن يقرأه لا يمكن له إلّا أن يدرك التأمّل والتفكير العقلي الذي أوصل الرجل إلى إدراك البساطة. البساطة نادراً ما تكون نعمة يتم الحصول عليها مجّاناً!
المجتمعات التي وصلت إلى رقيّ لا بأس به في الأخلاق والفنّ، وتمكّنت من الولوج إلى أطوار عديدة من عالم الجمال، عُرِفت بالتأمّل العقلي والفلسفي (أو العقلي الفلسفي)، ولم تعتنق السطحيّة الساذجة بدعوى البساطة. فشتّان بين البساطة الخرافية السطحية التي لا ترتكز إلّا على الأوهام، وبين البساطة الحقيقية التي يتمّ إدراكها عن طريق التوحيد بين عوالم العقل والشعور والحدس! ويا لها من رحلة ممتعة ووعرة وطويلة!
الارتقاء بالإنسان إذن لا يمكن أن يتمّ بمعزلٍ عن الفلسفة التي تدرس طبيعة الحقيقة والمعرفة، وتدرس بالتأكيد ماهية الإنسان والوجود، وعوالم المادّة والرّوح، والتجريب الموضوعي والاختبار الشخصي، الملموس واللاملموس حيث لا تهمّ النتائج دائماً بقدر ما يهمّ المسار الفلسفي الإستقصائيّ الذي يحتوي على الفائدة بحدّ ذاته. الفلسفة هي محبّة الحكمة، مَن لا يحبّ الحكمة لا يمكن أن يصل للبساطة التي هي تاج الحكمة وزيتها الصافي، لا بل هي جوهرها وأصلها.