عندما ننظر إلى السَّأَم كرحمة سيختلف واقعنا كثيراً، فليست هذه الحالة مجرّد حالةٍ من الهبوط المعنويّ الذي يحلّ بنا من دون سبب، أو بسبب سوء أو رتابة ما نقوم به فحسب، بل هو بالفعل ظاهرة لا يمكن الاستغناء عنها للحفاظ على ذواتنا من الضياع والتلاشي في “الخارج”، في تلك “البرّانيّة” المرهِقة.
لولا الملل لما عُدنا إلى أنفسنا إلّا نادراً، ولتُهنا في غياهب الحركة والانشغال بالخارجيّات. الملل يدعونا إلى الجوّانيّة مرّة أخرى؛ يدعونا إلى حطّ الرِّحال بعد الاغتراب؛ لنفحص ما أصبحنا عليه، ما نحن عليه.
السَّأم دعوة من عالم الظواهر إلى عالم الوجود الحقيقيّ، ومحرِّض دائم على ابتكار الدّهشة التي نفقدها. عندما أسأم أتذكّر أنني أعيش بعيداً عن الدهشة، على شواطئ الاعتياد، أو ربما في لجّة بحره العميق!
السَّأم ليس إلّا الجزء السلبيّ من الدّهشة، أي هو عمليّة دهشتي من لادهشتي، يقظتي إلى حقيقة أنّني فقدتُ الحيويّة، وأنّي بحاجة لتغيير أو إعادة نظر، و ربّما إعادة تقييم وفهم لمعاني ما أفعل.
البحث عن جوهر ما أفعل وغايته لا يتمّ بصورة فاعلة إلّا بعد تخللّ الملل إلى الروح، وبهذا فإنّ السَّأَم ليس إلّا دعوة إلهيّة، مدمَجة في داخل ظاهرة الفِعل، تهدف إلى إيقاظنا الدائم لوعي حقيقة فنائيّة الظواهر مقابل خلود الجواهر؛ أي هي اقتحامٌ قسريّ لعالم المثاليّات في عالم الفِعل لإعادة فحص التخرُّب الذي أصاب نظرتنا ومسارنا ودوافعنا وأهدافنا، لا بل وجودنا برمّته.
السَّأَم إثباتٌ بأنّنا كائناتٌ يحكمها المُطلَق ولا يشبعها إلّاه، وأنّنا كائناتٌ نحنّ إلى الدّهشة. وما هي تلك الدّهشة إن لم نكن ولوجٌ في عالمٍ من الشعور بغرضيّة توجّهنا وانسجامنا مع كلٍّ طبيعانيّ وإنسانيّ منسجم وخيِّر وجميل؟ ما هي الدّهشة إن لم تكن شعورٌ لحظيّ بقوّة حنان كونيّة مالوفة وغير اعتياديّة في الوقت عينه؟
إنّ السَّأم ليس حضوراً للعبثيّة في حياتنا، رغم الظلال العبثيّة الضرورية التي يلقيها أمام أبصارنا، فلولا هذا الخوف من العَبَث والعَدَم لما تحرّكنا وأحببنا. كلّ هذه الظواهر المخيفة ليست سوى الوجه الآخر لسعينا الدائم إلى الدهشة. أليست الدّهشة أيضاً انغماساً في الحبّ الكلّي؟