“اللاهوت بوّابة الفنّ، فإن لم يفتح الباب على مِصراعيْه للوصول إليه أصبح جحيماً.”
كيف يُمكِن لعِلم اللاهوت أن يكون بوّابةً للفنّ. لتوضيح هذه الصورة يجب التقرُّب أولاً من تصوُّر ملمَحٍ من ملامح الفنّ الكثيرة. إنّ الفنّ هو الرّوح الجمالية التي تتولّد في نفس مَن يُلاحِق الشعور باللاتناهي والمعاني الخفيّة في الموجودات ونظامها الكوني، ويحاول إدراك حقيقة انسجامها وجماليّتها ومعاني حركاتها ووجودها في حدّ ذاته. وهذه الرّوح الجمالية تتجسّد في العالم بأشكالٍ شتّى، أوضحها الفنون الجميلة بالإضافة إلى كلّ تعبيرٍ إنسانيّ عن فِعل المحبّة.
المحبّة تولِّد الفنّ بشكلٍ تلقائيّ، لأنّها تسليمٌ للّاتناهي وانعدام الحدود، وهذا التسليم للامحدوديّة يخلق جماليّةً في التعبير عن الذات، وجماليّةً في طريقة مدّ جسور اللغة الخفيّة إلى الآخر أيضاً، وهي تولِّد في نفس المحبّ والمحبوب الشعور بالجمال المطلَق، لأنّ اللاحدود تعني الانطلاق والاندماج في الرّوح التي تجمع كلّ المخلوقات معاً، ليس بتنظيمٍ فحسب، بل بإضفاء حنانٍ كامن على وفي كلّ الخليقة العاقلة.
وأمّا التعمُّق في علِم اللاهوت، إن كان حُرّاً شُجاعاً، فهو ليس إلّا الانفتاح على هبّات الرّوح الأسمى، وانتظاراً شَغوفاً مؤمناً بالأنوار العُلويّة التي لا تبخل على منتظريها. هو فتح الباب لكثيرٍ من الاحتمالات التي يخافها الدّين بمفهومه التقليدي الشعبيّ. إن أصرّ عِلم اللاهوت على البقاء حارساً لبعض الصِّيَغ اللغوية فهو من دون شكّ يصبح سِجناً جحيمياً لا يُمكِن له إلّا أن يُعيد تكرار نفسه بصورٍ أكثر تشوُّهاً عبر العصور، كالإنسان الذي لا تتغيّر فيه عبر السنين سوى تجاعيد وجهه وشيخوخة جسده. إن لم ينطلق عِلم اللاهوت لاستخدام تراثه وصِيَغه المحبوكة بعناية نحو خلق وصقل الرّوح الجمالية التي هي السبيل الوحيد للمعرفة الحقّة عن الرّوح الجامعة لكلّ شيء وتجلّياتها في الذات والآخر، لا يكون سِوى مومياء محنّطة يزيد تحلُّلها عاماً بعد عام فلا يبقى منها إلّا بقايا من شكل الجسد الخارجي، من دون أن يقدِّم أيّ شيء مفيد للوجود الإنسانيّ.
لا معرفة حقيقية من دون الرّوح الجمالية، أي من دون الفنّ، ولا فائدة تُرجى من استمرار التأمّل في بشاعة الخطايا والذّنوب وتنظيم المعابد وكيفية حشد الجماهير، فهذه كلّها لم توجَد إلّا لغرضٍ واحد هو إعادة خلق هذا الإنسان الذي يرى اللاتناهي في كلّ متناهٍ، مُكتشفاً لأوّل مرّة أنّ طَمَعه تافهٌ، وأنّ وسعيه المحموم للامتلاك غايةً صُغرى، وذلك في مقابل الولوج الأعظم في المحبّة والاستمتاع العميق والمُفتَتِن بكلّ ما يجعل من النفس واحةً خضراء وارفة الظِّلال من أجل الآخر.
عِلم اللاهوت في النهاية ليس إلّا عِلم رؤية غير المنظور بعين القلب، والتفنُّن في تجسيده في العالم المنظور، هو اللاخوف واللاعبوديّة، بل رقصة فرحٍ فِكريّة، تبتهج وتحتفل بما تصل إليه من أسرار روح المحبّة، وتنتظر بتوقٍ واشتياق الألوان الجديدة التي ستتجلّى واللوحات الجديدة التي سترسمها حين يأتي الموعد بهمسة خفيّةٍ في الرّوح.
إنّ أحد اعظم غايات التعمُّق اللاهوتي هو كسر الحاجز بين المتناهي واللامتناهي ليصبح الكون الرّوحي مفتوحاً أمام الإبحار وأمام الاغتراف من محيطاته العصيّة على الإدراك. من هنا تنطلق الفنون الجميلة أيضاً، فكلّ نفحة موسيقيّة منبثقة من اللاهوت، وكلّ لوحةٍ مرسومة، وكلّ قصيدة مخطوطة، ليست سوى مواليد شرعيّة من الرّوح الأسمى السَّرمدي، فما يولَد من الجمال يُعتَمَد عليه في المعرفة الحقّة لأنّ مصدره واحد وسرمديّ وحقّ.