بعدما وجد هولدرلين، الشاعر الألماني العظيم، حبّه، والذي انتهى كحلم عابرٍ مؤلم غدره به الزمان، والذي تنبّأ به حرفياً قبل أن يراه، ويبدو أنّها نبوءة الشعَراء، الذين من فرط توقِهم للمُطلَق لا بدّ لهم من أن يتعثّروا به أو يجدوه؛ بعدما وجده إذن، وبفعل تجمّد روحه من تجريد الفلسفة (ديانة ذلك الزّمان)…هولدرلين بعد أن وجد “ديوتيما”، ها هو يتحدّث إلى رِفاق الدَّرب من الفلاسفة وأنصار الفلسفة المجرَّدة (دين ذلك الزمان). إنّه يشتكي من ضيقهم به:
“ألَم يُصبِح قلبي مقدّساً، مفعَماً بالحياة الجميلة، منذ أن أحببت؟
لماذا كنتم تهتمّون بي…
عندما كنتُ أكثر غروراً وتوحُّشاً،
وأغنى بالكلمات وأشدّ خواءً؟
آه! الجمهور لا يعجبه إلّا ما يروج في الأسواق،
والعبد لا يحترم إلّا الجبّار
وليس يؤمِن بالإله
إلا من كانوا بطبعهم إلهيّين”
أليس هو حالنا في هذا الزمان؟ أليس هو الخوف الدينيّ من اختراق الجديد لخِرَق الرّداء القديم؟
لماذا هو الدّين إن لم يكن للحبّ والجمال والبساطة؟ ولماذا الفلسفة إن لم تكن مِشعلاً في الطريق؟ لماذا النصوص المقدَّسة؟ أم هي كلّها للخوف والرُّعب والتهديد والوعيد؟
أليست الإلهيّات شرارة الجمال ومهد البساطة؟ أليس الأبد في اكتناه الجمال ورؤياه في الكلّ؟ أليس للأفكار هدفٌ واحد وهو العثور على حجر الفلاسفة وسرّ الخيميائيين: الرِّضا بالحبّ وحيداً أوحدَ في عالم المال الإله؟
الدّين والنُّظُم الفِكرية الفلسفية، وكلّ البناءات العقلية المنطقية، ليست غاية، ليست هي المُنتَهى، بل هي الوسيلة الإلهية لبلوغ القدرة على التوحُّد مع روح المحبّة، ورؤية دفقات الطفولة في باطن كلّ كائنٍ حيّ. الطفولة التي هي عنصر البراءة قبل أن ينطق ويبدأ بالتشوُّه.
معظم من يعتنقون البناءات العقائدية الدينية والفلسفية ويتشبّثون بتفاصيلها وتسلسلاتها المنطقية المحتملة يعانون في الواقع من الارتياع الشديد على الأقل. ربّما البعض لا تسعفه القدرات العقلية على إدراك الزوايا الأخرى للوجود الإنساني والطبيعاني والدلالات العميقة، والأمور النفسية والماورائية، ولكن هنالك فئة كبيرة تخاف من هذه الاختراقات الحدسيّة المخيفة؛ فهي بالنسبة لهم منبعاً للغموض والإبهام الذين ينظرون إليه كشيطانٍ رجيم.
الخوف هو السيّد الحاكم في البُنى الأديولوجية مهما اختلفت، وليس التقوى والوَرَع كما قد يبدو للوهلة الأولى، وهذا هو السبب الذي يجعل هذه البُنى تنفر بالطبيعة من كلّ ما يقترب من الحريّة والغموض، وحريّة الغموض. إنّها تسارع إلى إزاحة العِشق والحبّ والألوان، لأنّها مخيفة، فهي تفتح الباب للرّيح كي تهبّ فتغيِّر تصميم البيت الداخلي الذي تعبت في صناعته، لا بل إنها قد تهدم الجدران وتُعيد الناس إلى سُكنى المروج الخضراء تحت قبّة السماء المرصَّعة بالنجوم التي تلقي برسوماتها العجيبة ظلالاً من العَجَب والدّهشة اللذين يُلاشِيان اليقين الساذج، وتملأ القلب بالخشوع أمام الشكّ الواثق بعدم فائدة الإجابات الجاهزة، وبالمَهابة أمام روعة الحبّ والشعور بالانسجام مع النبضة التلقائية للوجود المختفي تحت أكوام الغبار المصنَّع في مصانع التنظيم ضيِّق الأفق.