أحاول أن أنظر إلى حركة التاريخ. التاريخ يتطوَّر نحو هدف معيَّن برأيي الشخصي، وكلّ الأفكار الجمعية الكُبرى الفاعلة في التاريخ تساهم في صنعه، ولكن في نفس الوقت إن كانت قيمتها الكبرى مخالفة لهدف التاريخ فإنّها ستُهدَم تلقائياً ويتمّ استبدالها. هذا ما يحدث الآن للإسلام الجهادي بكافّة فروعه الفاعلة والصامتة (وهذه الفروع الفاعلة والصامتة هي صُلب الإسلام التقليدي الذي عرفه العالم قروناً). الرِّهان الآن على انبثاق حركة إصلاحية جذرية من داخله تتبنّاها حكومات كاملة بشكل جدّي. إذا لم يحدث هذا…فنحن أمام مقتلة عظيمة جداً.
***
الأديان التي تعتمد النصوصيّة الفجّة، بمعنى أنّها لا تربط النصّ بالواقع (والواقع هنا يتجاوز المَرئيّ إلى الخبرة اللامحسوسة بالحواس) وبالخبرة (مهما بدت الخبرة غريبة) وبالتاريخ- هذه النصوصية مصيرها الموت، بعد نزاع عُنفيّ دمويّ أو فكريّ. الأصوليّة الإسلاميّة، وهي الآن في عهدها الأخير، بدأت بالاحتضار على مستوى العالم، واختارت طريق الانتحار، بشكل يقودها إليه لاوعيها الانتحاري الكامن فيها. الأصوليّة المسيحية سابقاً وحالياً، الي تعتمد النصوصيّة التي لا تحاول فهم الواقع، قادت نفسها سابقاً في مناطق معيّنة من العالم إلى الموت، وفي مناطق أخرى إلى الانعزال والتقوقع، ومؤخّراً تُعاني في بلدان منشئِها تدهور عدديّ نحو الموت (الأصولية المسيحية في الولايات المتحدة مثالاً)، ناجم عن عدم إرادتها ربط نصوصها بالواقع والخبرة الروحيّة والعِلمية، التقليدية وغير التقليدية. الأصوليّة الحداثية (التي تقول أنّها تنويرية) أيضاً وقعت في فخ مسلّمات عقلية وفلسفية لا ترتبط بالخبرة (براءة الإنسان وصلاحه مفهوم ساذج لا يأخذ الخبرة البشرية بعين الاعتبار). أنكروا المعجزات لأنّها لا تحدث في زمنهم (كما رَأَوْا) رغم أنّهم سلّموا بأسطورة الإنسان البريء في الأزمان الغابرة (وهذا ادّعاء لم يسجّله التاريخ وليس عليه دلائل)! أنكروا الروحانيات التي شهدتها الخبرة البشرية واقعياً وعملياً لآلاف السنين من دون مسوِّغ، فقط كردّة فعل على استغلال العجائبية من قبل الجهاز الكهنوتي. وبسبب ذلك تنهار الحداثة العقائدية اليوم أمام ضربات ما بعد الحداثة، الفضفاضة أحياناً والعَدَميّة أحياناً أخرى. الأصوليات تحكم على نفسها بالموت.
***
التنوير الأوروبي والأمريكي بعده نقضا الدّين الذي يقول بالخطيئة المنغرسة في البشر ليعتنقا ديناً آخر لا يقلّ أصوليةً يقول بالبراءة البشرية من دون أيّ سند لا عقلي ولا حتى تجريبي عملي أو واقعي. طبعاً البعض اليوم (وخاصة من الحداثيين أو من مدّعي الحداثة العرب ومثلهم في بقاع أخرى في العالم) يظنّ أنّ هذا كان انقلاباً “على” المسيحية، بينما عدد كبير من منظّري التنوير نظروا إلى أنفسهم ومن خلال تصريحاتهم على أنّهم يقومون بانقلاب “في” الدّين، وأنّهم الممثلون الشرعيون للمسيحية (ولا نقاش هنا في صحة تصريحاتهم من عدمها). كثير من التنويريين استبدلوا أصولية عقائدية جازمة بأصولية أخرى لا تقل عقائديةً. مثلاً: الربوبيون الأمريكيون مثلاً نظروا إلى أنفسهم كالممثلين الحقيقيين والشّرعيين للمسيحية البروتستانتية، وأنّ انقلابهم العقائدي كان “لتطهير” الدين من الشوائب. هذا طبعاً ليس استنتاجاً، ولكنه واضح في تصريحاتهم وسعيهم المحموم لإنشاء أديانهم الجديدة بطريقة فلسفية عقائدية صارمة. لماذا أقول هذا؟ أقول هذا لأنني أسمع كثيراً عن حلم القضاء على الدين كما حدث في أوروبا، وكيف أنّ الحداثيين في العالمين العربي الإسلامي يريدون تقليده. إن كنتم تريدون تقليده فالموضوع يحتاج إلى بناء جديد من قلب الدين نفسه، على الأقل في البداية. ما حدث في أوروبا وأمريكا كان انقلاباً على المؤسسة الكنسية ليس أكثر، وليس على الدين الذي تمّ تحوير شكله إلى عقائدية أخرى لا تقلّ صرامةً عن سابقتها، ولكن بمصطلحات تقلّ فيها المصطلحات الغيبية (ولكنها تتضمّن غيبيةً كبيرة في صُلبها وتضميناتها، لا يُخطِئُها أيّ دارسٍ للعقيدة الدينية).