اللادينيّة الرّبوبيّة Deism هي مذهب فكري عقلاني انتشر في أوروبا وأمريكا بشكل واسع في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر (مع العلم أنّ بعض الربوبيين اعتبروا أنهم هم الممثل الحقيقي للمسيحية مثل توماس جيفرسون مثلاً!). وبعكس ما قد يظنّه بعض الناس من أنّ هذا المذهب يعتمد على عقلانية مبرهَنة الادّعاءات، تخلِّص البشرية من الخرافات والدوغمائيات غير المثبَتة التي تنشرها الأديان المعروفة، فإنّ هذا المذهب هو في الحقيقة دينٌ كامل، منبثق من التراث اليهودي المسيحي بشكل خاصّ، رغم اختلافه الكبير عنه. ربما لا يمكن الادّعاء بأنّ هذا المذهب اللاديني يعتقد بكثير من العقائد التفصيلية، ولكنه مع ذلك يقوم على عقائد حقيقية تعتمد على التسليم الغيبيّ. وليس هنا مجال للبحث في الاختلافات الداخلية في هذه النظرة، ولكننا سنقدِّم هنا بضعة خطوط عامّة يتبعها الجميع تقريباً. ونقدنا هذا يعني أننا سنبيِّن مقدار الدوغمائية الموجودة بغضّ النَّظَر عن اتفاقنا الشخصي معها أو عدمه:
* هناك إله واحد خلق العالم. وهذا الإله حنونٌ محبّ وعطوف، ويريد الخير لجميع البشر. ولا نحتاج للكثير من الشّرح لتبيان دوغمائية هذا الادّعاء. فكيف يمكن للإنسان معرفة هذه الصّفات الإلهية؟ من الواضح أنّها مأخوذة من التراث المسيحي والإغريقي، بطريقة انتقائية.
* الإله منذ خلقه للعالم نظّمه بطريقة ميكانيكية عبر القوانين الطبيعيّة، وهو لا يتدخّل في مجرى الأمور. ويتّضح هنا أيضاً أنّ هناك عقائدية صارمة في تحديد “حدود” إلهية “يعرف” الربوبيّ بشكل جازم وفقها الطريقة التي يسلك بها الله؛ فهو مثلاً يستطيع أن يجزم أن الجاذبية قانون طبيعيّ، وليس قوّة إلهية عاملة. من المؤكَّد أيضاً أنّ نبذ الإيمان بالثالوث (وهو عقيدة مبدئياً بغض النظر عن حقيقيتها أو عدم حقيقيتها) فتح المجال لهذه العقائدية، لأنّ الإيمان الثالوثي يفترض الإيمان باللوغوس- الكلمة وهو محرِّك وحامل لجميع الأشياء. إذاً الربوبيّ “متأكّد” أنّ الله أحاديّ الأقنوم. من أين أتى هذا التأكيد؟ ربما أتى من “اليقين” بأنّ الله كيان مفهوم للبشر بحسب ما وصل إليه إدراك القرن الثامن عشر، وأنّه من غير الممكن فهم شيء آخر عن الله قد لا يخطر على بال.
* الوحي غير موجود. كيف يمكن للادينيّ الرّبوبيّ أن يجزم بهذه القوّة أنّ الله الذي يؤمن بوجوده وأنّه هو الخالق لا يريد ولم يحاول أن يتواصل مع الكائنات التي خلقها عن طريق اللغة أو الإدراك أو الحدس؟ وحتى من ناحية منطقية، كيف يمكن لصانع ألّا يستمرّ في العناية بما صنع.
* العقل هو المرجعية الأعلى. هذا طبعاً ادّعاء عقائديّ، لأنّه عند إضافته إلى البند السابق يفترض أنّ العقل هو مَلَكة تتعامل مع الملموس من الطبيعة، ولكنه في نفس الوقت يسلِّم بوجود “الحدس”، متيقِّناً بأنّ هذا الأخير ليس تدخلاً إلهياً (مصطلح التدخّل غير دقيق بالنسبة لي، لأنّ هذا يفترض أنّ الله أصلاً منعزلٌ ويتدخل أحياناً، ولكنه تسليم مؤقّت للادّعاءات اللادينية). وهذا يفترض بشكل جازم أنّ الإنسان قد وصل إلى “يقين” كامل بشأن ماهية العقل، وأنّه منظومة إنسانية إرادية بحتة، وأنّها ليست متّصلة بأيّ شيء خارج نطاق الملموس. كيف يستطيع الربوبيّ أن يضمن بأنّ العقل ليس عبارة عن إلهامات تأتي من عالم خارجيّ، أو أفكار تفرض نفسها على الذي يفكِّر وبالتالي هي ببساطة دفقات روحية من منظومة عُليا؟ معظم البشر اختبروا أفكاراً جاءت إليهم فجأة، أو أبدعوا أعمالاً من دون أن يخطِّطوا لها مسبقاً. هذا بالطّبع لا يبرِّر الإيمان بالوحي، ولكنه بالطبع يعني بأنّ الرّكون إلى أنّ العقل مَلَكة بشرية ومرجعية نهائية تستخدَم إرادياً هو إيمان عقائدي أكثر من كونه طرحاً عقلانيّاً. أي أن الإيمان بمرجعية “العقل” هو طرح غير عقلاني، بمعنى أنّه يعتمد على بديهيات غير مثبتة (قد تكون صحيحة وقد لا تكون). وبالفعل فإنّ ديكارت (وهو مسيحي على كل حال، ولكنه واضع أسس العقلانية التي سار عليها الرّبوبيون اللادينيون لاحقاً) في أعماله مثل “خطاب حول المنهج” و”تأمّلات ميتافيزيقية” لا يجد بدّاً من الرّكون إلى أنّ حقيقية الشيء تعتمد على كونه واضحاً ومتمايزاً Clear and distinct.
* الإنسان صالح بطبعه. وهنا ينبغي أن نسأل: كيف يضمن اللادينيّ الربوبيّ أن الإنسان فعلاً صالح؟ من الواضح أنّ هذا ادّعاء رومانسيّ جميل يهدف إلى مجابهة السُّلطة الدينية التي شدّدت على فساد الطبيعة البشرية، وبالتالي تسلّطت على الإنسان مدّعية واسطة ما في غفران خطاياه والتخلّص من فساده. والواقع البشري لا يشجِّع على هذا الزّهم. روسو مثلاً في كتابه “إميل” وفي كتابه الآخر “بحث علمي في العلوم والفنون” يقول بصلاح الإنسان فطرياً، ولكن مع ذلك فكلّ ما يلحق هذا من شروحات يفترض فساد الإنسان. روسو يعزو الفساد الإنساني إلى المجتمع والمُلكية والعلوم والفنون، وقد يكون هذا صحيحاً إلى حد كبير، ولكن لم يعِ البشر أنفسهم إلّا ضمن مجتمعات. هناك أيضاً ادّعاء آخر يعتمد على عقائدية صرفة تفترض أنّ الإنسان نشأ منعزلاً قبل أن تتطور ملكاته الاجتماعية، ولكن هذا أيضاً زعم لا إثبات له، ولا يمكن التعويل على الآثار في بناء تصوّر ضخم كهذا.
وعلى الهامش: من يعرف علم الآثار يعلم أنه من الصعوبة بمكان بناء تصوّر عن مجتمع عاش قبل 3000 عام، فما بالنا عندما نتحدث عن مجتمعات أقدم من هذا كانت على الأغلب تعيش حياة التّرحال والتنقّل!
وأعيد التذكير بأنّ النقد السابق ليس معنياً بصحّة وخطأ الادّعاءات، فأنا شخصياً معجب بكثير من أعمال الربوبيين المتنوّرة، وأعتبر أنّهم في بعض المواضع فهموا الدّين أفضل من الدينيين التقليديين، ولكن هذا النقد معنيّ بتبيان أنّهم عقائديون أيضاً، كما أنّهم مؤسّسون لنظرة دينية جديدة للعالم (وفي كل الأحوال بعضهم كان يرى نفسه كذلك).