مفهوم الكنيسة الذي تطوّر عبر العصور، من النظرة اليهوديّة الأضيق، إلى النظرة البولسية التي أزالت الفروق العملية بين اليهود والأمم، إلى النظرة التي اعتنقها بعض الآباء الذين رأوا الكنيسة “جنساً ثالثاُ” إلى جانب اليهود والأمم، أو آراء أخرى رأت الكنيسة كيان مؤلَّف من مجموعة من العارفين الحقيقيين مُزيلين أيّ فرق بين اليهود والأمم؛ هذا المفهوم إذاً وصل إلى نقلة نوعية جديدة مع المثالية الألمانية التي ولدت اللاهوت الرومانسي وهو بداية اللاهوت الحديث أو الليبرالي. وحينما يبدأ الكلام عن هذا الصنف من اللاهوت ينبغي بالتأكيد الحديث عن مؤسّسه فريدريش شلايرماخر. نظرة شلايرماخر للكنيسة تتضح من خلال نظرته للدين ومن خلال رؤيته لمَن هو الكاهن الحقيقي.
بالنسبة لشلايرماخر فإنّ الكنيسة الحقيقية ليست هي التي تقوم على العقائد، فالناس الذين يبنون هذا النوع من الكنائس أو ينضمّون إليها يستوردون دينهم من خارج أنفسهم.[1] وبالنسبة لشلايرماخر فإنّ الكنيسة الحقيقية لا تتعلّق بهوية معيّنة، لا يهود ولا أمم بالتأكيد ولا مؤمنين بكتلة معيّنة من العقائد، بل هي التي “تركّز على صورة الإنسان الفرد واستشعاره للكون، فلا تدّعي ادّعاءات معيّنة عن الحقيقة، ولا تُظهِر أيّ أثر لهرمية استبدادية بين العوامّ والكهنوت، ولا تشعر بالحاجة لتحويل الآخرين إلى الدين الواحد الصحيح.”[2] صورة الكنيسة هذه إذاً لم تعد تتعلّق أبداً بهوية عرقية، ولم تعد تتعلّق أيضاً إذاً بنمط معرفيّ عقائديّ معيّن متّصل جوهرياً بكنيسة الآباء الأوائل. غادر هذا المفهوم البنيان الدينيّ التقليدي وتقدّم ليحاول أن يخلق شيئاً جديداً يتمكّن من مواجهة الثورة الفِكرية والعلمية، وأيضاً الثورة الصناعية التي كانت على وشك الانفجار. ولكن رغم ذلك فقد أصرّ شلايرماخر على أنّ الكنيسة لا يجب أن تدخل في أيّ علاقة مصلحية مع الدّولة رغم أنّها منغمسة في الثقافة.[3]
وانطلاقاً من هذه الهويّة الجديدة للكنيسة يظهر دور الكاهن، وهذا الدّور يساعد بدوره على توضيح مفهوم الكنيسة أكثر. الكاهن الحقيقيّ بالنسبة لشلايرماخر خادمٌ للمجتمع بكامله، فهو ليس خادماً حصرياً لمجتمع دينيّ مغلق. إنّه أشبه بالمُنير لأذهان الناس وقلوبهم، وليس قائداً لجماعة دون أخرى. الكاهن بالنسبة لشلايرماخر يبدو أشبه بوسيطٍ روحيّ ينقل المعرفة إلى الآخرين بطريقة سرّية رومنطيقية. إنّها دعوة شخصية، شغف ذاتيّ. الكاهن هنا كالفنّان والشاعر المتصوّف الذي يحمل رسالته للعالم أجمع: “بحسب مبادئ الكنيسة الحقيقية، إرسالية الكاهن في العالم هي شأن خاصّ، والمعبد أيضاً يجب أيضاً أن يكون مخدعاً خاصاً…فليكن أمامه جمع وليس كنيسة. فليكن متكلّماً لأجل كلّ مَن سيسمع وليس راعياً لقطيع معيّن. فقط تحت شروطٍ كهذه يمكن للنفوس الكهنوتية الحقّة أن تتحمل مسؤولية الباحثين عن الدين.”[4] وهكذا فإنّ المجتمع الدينيّ الحقيقي (الكنيسة) يصبح مجموعة من المفكّرين الأحرار، حيث يكون التفكير في هذه الحالة هو محاولة إيجاد طرق للوصول إلى الله. التفكير هنا ليس عملية عقلية محضة بل محاولة تمهيد الطريق للحدس والشعور. إنّه محاولة للتخلّص من المحدوديات المقيّدة للجسم الدينيّ العقائديّ والمُمأسس.
من ناحية أخرى فَهِم فريدريش شيلينغ الكنيسة بطريقة غريبة وجديدة؛ فالكنيسة ليست جسداً غير تاريخيّ غير عقائديّ على نمط شلايرماخر، بل هي الآن حقيقة تاريخية تأسّست في زمنٍ محدَّد لتكون المتابع لعمل المسيح بعد قيامته، كفادٍ على الأرض. المسيحية (الكنيسة) تهدف بحسب شيلينغ إلى “وحدة العالم الساقط والعالم المَفدي”[5] حيث أنّ العالم الساقط هو تجسّد القوة الأولى (الآب) والكنيسة وهي العالم المفدي هي تجسّد القوة الثانية (الابن). ولكي يتمّ هذا الفداء يجب على الكنيسة أن تصبح مطابقة للمجتمع البشري ككلّ، من دون أن تفقد هويّتها التاريخية، ومن دون أن تكون مؤسّسة ذات هرمية استبدادية.[6]
غاية المسيحية أو الكنيسة بالنسبة لشيلينغ هي أن تصبح مسيحية من دون لاهوت (عقيدة)، لأنّ كل العلوم ستصبح هي اللاهوت. أو أنّها ستصبح ديانة من من دون دين طالما أنّ كل شيء في العالم سيصير دينيّاً، أو أنّها ستصبح عالماً من دون كنيسة طالما أنّ العالم سيصبح هو الكنيسة.[7] هذه هي المرحلة الأخيرة هي ما يسمّيها شيلينغ بالكنيسة اليوحناوية التي تخلُف الكنيسة البطرسية (كنيسة الناموس والنظرة اليهودية) وتلك البولسية (كنيسة العقائد المضادّة للعالم وثقافته وحكمته).[8]
من هنا إذاً فتحت الرومانسية الألمانية، ذات الأساس المثالي، الباب لفهم جديد ومختلف للكنيسة والمسيحية، يختلف كلّ الاختلاف عن كنيسة القرون الأولى والقرون الوسطى، رغم أنّ هذا الفهم قد لا يبتعد كثيراً من حيث الشكل والغاية عن صورة الكنيسة عند يسوع المسيح، وهي صورة الكنيسة التي تعمِّد العالم بالروح القدس وتنقله نحو دهرٍ جديد.
[…] التي ورثها سولوفيوف عن المثالية الألمانية عند هيغل وشيلينغ، بالإضافة للإرث المسيحي التقدمي المتمثّل بوضوح […]