في مديح الأرستقراطية والنخبويّة: نبذ التواضع الزّائف
بقلم فادي أبو ديب
ممّا ابتُلي به عصرُنا مصيبة المساواة والفهم الخاطئ لحكم الشعب لنفسه بنفسه. وأساس هذا البلاء هو الانتشار الوبائي للاعتقاد بأنّ حريّة التعبير عن الرّأي تعني أنّ كلّ الآراء متساوية في قيمتها، وهذا الوباء بدأ في الغرب على كلّ حال. المشاكل العديدة في الفلسفة واللغة والحيرة التي أربكت الفلاسفة جعلت بعضهم يعلن هزيمته وتخلّيه الفعلي- سواء أقرّ بذلك أم لا- عن البحث، لمصلحة “السَّأم” القائم على مساواة كلّ شيء بكلّ شيء. ولكن المساواة لا تتوافق مع أيّ قدر مع العقلانية. المساواة تتناقض مع العقل، ولكن الخطأ الذي يحصل دائماً في التاريخ هو نشر عدم المساواة على أسس غير صحيحة وظالمة. ولكن المطالبة بالعدالة تتناقض مع المطالبة بالمساواة. العدالة في مفهومها الفلسفي الأفلاطوني هو أن يكون كلّ شيء وكلّ شخص في مكانهم الصحيح ويقومون بعملهم الذي يتناسب مع غائيّة وجودهم. المساواة هي اغتيال للعقل والمنطق وقوانين الطّبيعة وحكمة القدماء واللاهوت الصحيح والعلم الحديث وكلّ شيء جميل في هذا العالم. المساواة ضجرٌ أبديّ لأنّها تحرم الإنسان من متعة الشّعور بالإنجاز والتقدّم والارتقاء. المساواة تعني لا وجود لإمكانية ارتقاء من مكان لآخر أو من حالة لأخرى، لأنّ كلّ الأمكنة والحالات متساوية.
الطبيعة تقوم على الهرميّة، وإن كان الكون واحداً في جوهره كما ينادي البعض، فهو ليس كذلك في واقع الأمر. في الظاهر الكون كثرة لأنّه مخلوق. النّهر نهر والجبل جبل، العصفور عصفور والنسر نسر والفيل فيل والأسد أسد، الأرض أرض والسّماء سماء، ولكل الأشياء قوانين فيزيائية وعقلية تسيّرها. وهذه القوانين تتطلّب بحثاً، والبحث الصادق يأتي بالمعرفة. ومَن يعرفها ليس كَمَن لا يعرفها، ومن يبحث عن غايتها ليس كَمَن يتقاعس عن ذلك. وعلى نفس الأساس: هناك منهج للعلماء وهناك آراء فوضويّة للحمقى، وهناك أسلوب للتفاهات. العالم عالم والأحمق أحمق، ومَن يختار الحماقة منهجاً لا يمكن له أنّ يدّعي التساوي مع من يعلم. مَن يظنّ أنّ الحماقة في مكان يمكن ان تكون حكمة في مكان آخر فهو ينقض التاريخ والعقل وقوانين الكون (الاختلافات الثقافية موجودة ولكن لا يجب أن تكون على الأمور الجوهرية- وهذه الأمور قليلة لأنها ترتبط بمبادئ كبرى).
المسيح مثلاً لم يكلّم جميع الناس بنفس الطريقة، فقد كلّم بعضهم بأمثال وبعضهم الآخر بأكثر صراحة. من الجماهير اختار سبعين تلميذاً، ومنهم كان هناك اثنا عشر، ومن الاثني عشر اصطفى ثلاثة كان يسرّ لهم بغير ما كان يسرّ للآخرين. مَن له يُعطى أكثر ومن ليس له يُؤخَذ منه ويُعطي لمن يستحقّ، والأمين يختلف عن غير الأمين، فهو يُستأمن على الأكثر ويُعطى المزيد.
التواضع الذي يدّعي بأنّه من فرط تواضعه يساوي كلّ شيء بكلّ شيء هو متآمر على الحقيقة والصحيح، وهو ينقض نفسه، فإذا كان كلّ شيء يساوي كلّ شيء، فلا التواضع تواضع ولا الكبرياء كبرياء، فلتسقط اللغة تماماً، وليصمت الجميع إذاً ولتتوقّف الأفكار وتموت العلوم ويسكت الشّعراء!
التواضع الحقيقي هو الذي يبقى منفتحاً للمعرفة أكثر والمستعدّ للتطوير والتعديل ونقد الذات بحريّة وأريحية. وهو الذي يقول: “أنا أستعبد نفسي لأجل أخي الباحث الذي يحثّ الخُطا بصدق لكي يعرف أكثر وينمو أكثر في الحبّ والجمال والحقيقة.”
التواضع الحقيقي هو الذي يعترف بعدم المساواة ولكنه لا يقيمها على أساس الجنس والعرق واللون والنّسب (وهذا خطأ الطبقية الهندية مثلاً، فهي ليست خطأً من حيث المبدأ) التواضع الحقيقي لا يعني أن احترام الغباء ولا الرّفع من شأن السّخافة ولا مساعدة المخرّبين على الاستمرار. النخبوية لا تعني حتمية تحكم نصيب شخص بأن يبقى في طبقة معيّنة، فالمجال مفتوح لجميع من يثبت جدارة وقابلية للمعرفة والترقّي الفكري/العقلي/الرّوحي.
الطريق نحو المعرفة بطبيعته يقوم على الأرستقراطية الفكرية والنخبوية، لأنّه “طريق” وفيه “مراحل”. والفِكر فيه نُخَب تعتمد على مدى بصيرتها وإمكانياتها العقلية/ الرّوحية. و”المفكّر” الذي يعتقد أنّه يمثّل “الشارع” هو خائن للمعرفة، وذاك الذي ينتظر موافقة الحشود يجب أن يُحاكَم معنوياً بتهمة التآمر على الحقيقة. على العكس من ذلك، فالمفكّر الفيلسوف يجب أن يكون هو رجاء الحشود، إلى حدّ معيّن طبعاً. هو قابل للاستفادة من كلّ شخص ويريد ذلك، ولكنه يبقى في المقدّمة لأنّ هذه هي العدالة. مصيبة عالمنا المعاصر أنّ المفكّرين والروحانيين/ العقلانيين باتوا في المؤخرة ليسمحوا- شاؤوا أم أبوا- للتكنوقراط والفنّيين ورجال الأعمال باستلام زمام العالم، ولم نر إلا استثناءات قليلة لهذا (بعضها ربما الأورغواي وفنزويلا وقلّة من الدول الشيوعية السابقة على علّاتها!)
المسيح، وهو أعظم من تكلّم عن التواضع، لم يساوِ بين الفرّيسيّ والعشّار فحكم أنّ العشّار في قصته أفضل (لأنّه عرف أكثر)، أو بين الزانية والفرّيسيّ فحكم أنّ الزانية المسكينة أفضل لأنّها أحبّت أكثر. في هذا الوجود قوانين، وإن وقعنا في الخطأ فهذا لا يعني أنّها غير موجودة ولكن هذا يعني أنّنا لم نعرف ما هو الجوهري وما هو المصطنع. اقفز في النهر تستمتع بجريانه وانتعاشه، اقفز على جبل تكسر رأسك. الجبل لا يمكن أن يكون نهراً! لاعب العصفور تشعر ببراءته، جرّب أن تفعل نفس الأمر مع ثعبان فيقتلك. العصفور لا يمكن أن يكون ثعباناً!
من له الذّهن يعلم بأنّ موافقة ثقافة ما على أمر ما وشيوعه لا يعني صحّته. والعقلانيّ/الرّوحانيّ لا يجدّف على الرّوح من أجل احترام ما سيتغيّر غداً. أويوجد أسوأ من رفض الترقّي في المعرفة والظنّ بأنّ كلّ الأشياء سواسية؟ هذا هو التجديف الفعلي على الرّوح القدس، لأنّه يظنّ أنّه مُكتفٍ وأنّه “غنيّ وقد استغنى وليس له حاجة إلى شيء”، فلا غرابة أن يُقال له حينها “لَسْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ أَنْتَ الشَّقِيُّ وَالْبَئِسُ وَفَقِيرٌ وَأَعْمَى وَعُرْيَانٌ.”