هل نحن بحاجة إلى تحليل سياسي أم إلى قفزة تأليفية؟


بقلم فادي أبو ديب

Chaos-Theory

أتى زمن في نهايات القرن التاسع عشر ظنّ فيه بعض الأوروبيين أنّ الحروب الكبرى قد أصبحت مستحيلة، ونرى مثلاً إحدى الشخصيات الرئيسية في كتاب الفيلسوف الروسي فلاديمير سولوفيوف “الحرب والتقدم ونهاية التاريخ”، والمكتوب بين عامي 1899 و1900، تحاول أن تقنع محدّثيها بأنّ الحروب الكبرى لأجل التوسّع باتت صنعةً مَنسيّة، إلى درجة أنّ الشعوب المتحضرة قد أخذت بنسيان طرق القتال!  ثمّ أتى النصف الأول من القرن العشرين بحربين كونيّتين،ليظهر مدى سذاجة هذا “التحليل السياسي” (والشخصية التي حاججت لدعم هذا الرأي في الكتاب هي شخصيّة “السياسيّ”).  ولا ريب أنّ هذه الشخصية كانت ممثّلة لشريحة واسعة من المفكّرين والسياسيين والفلاسفة في ذلك الزّمن التفاؤلي الذي انهار بعد عقود.

وفي الماضي القريب رفض كثير من السوريّين أن يكون شركاؤهم في الوطن يشبهون الأفغان والباكستانيين وأنّنا في حرب أهلية فأثبتت الوقائع خطأهم وأنّ البعض من “شركاء الوطن” ممكن أن يكون أسوأ من الأفغان والقاعديين وأمثالهم، وأنّنا في حرب أهلية قلّ مثيلها من حيث الطبيعة والانقسامات في هذا العصر على الأقلّ.
التحوّلات الكبرى دائماً مفاجئة وغير متوقّعة وشرارتها تافهة وربما حدثت مثلها آلاف الحوادث في التاريخ. ولكن لأنّها “تحوّلات” فهي مختلفة!  توقّع الأحداث البشرية العالمية، يحتاج إلى أكثر من “تحليلات سياسية”.  لا شكّ في أنّ التحليل السياسي هو المرحلة الأولى من التوقّع.  ولكن مَن يحتاج إلى مجرّد توصيفات لا تُسمِن ولا تُغني عن جوع؟  التوصيفات هي تشخيصات وتحتاج إلى قفزة تأليفية (تركيبية) مغامرة بعض الشيء.  ألا يقفز الطبيب أحياناً في توقّعاته بناءً على تشخيصات معيّنة؟  ألا يحتاج أحياناً إلى أن “يشطح” قليلاً، ويطلب صُوراً شعاعية وتحاليل أخرى- قد يرى أطبّاء آخرون أنّها من دون داعٍ- لأنّ الأعراض المرضية مشابهة لحالات أخرى اعتيادية؟

التحليل لا يجب أن يكون إلّا بداية الطريق في كلّ شيء، أمّا التركيب فهو ما يفيد الإنسان حقاً في رؤيته للعالم وتقرير سلوكه وحَدس ما يجب تغييره أو إقراره.  أحد الأمثلة عن التحليل والتركيب هي ظاهرة الإرهاب العالمي اليوم والمشكّلة بشكل أساسي دولٍ عظمى مع أفراد وجماعات وحركات وأحزاب وفصائل إسلامية لا حصر لها تقريباً بالنسبة للناظر العادي الذي لا يملك إحصائيات رسمية.  المهمّ الآن هو أنّ بعض المحلّلين يقدّمون التحليل التالي أو ما يشابهه والذي يقول بأنّ الحاصل حالياً اعتياديّ من حيث النوعية، فالدول العظمى والإمبراطوريات ما فتئت تكرّر سلوك نظيراتها وسابقاتها عبر التاريخ، وأنّ الجماعات الإرهابية ليست إلّا نموذج مكرَّر لجماعات متمرّدة وفوضويّة مرّ أسوأ منها في التاريخ.  ولكن التحليل المعمَّق يمكن أن يكون كالتالي، وهو أنّنا في الواقع في عصر منفتح من الناحية التواصلية، ورغم التطوّر المَهول في الأدوات التقنية والأمنية التي يمكن أن تضبط الأمور، إلّا أنّ هذا التطور لا يبدو أنّه ينجح عملياً في ضبط انتشار الأفكار ووسائل إنتاج التخريب المؤذية رغم بساطتها النسبية.

نحن إذن في عصر منفتح بسبب وسائل الاتصال، ولهذا السبب بالذات الإصلاح أصبح مستحيلاً. الإصلاح لا يعتمد على الحرية الفردانية بالمناسبة، بل الحرية الفردانية تعتمد على الإصلاح. والفردانية كارثة حقيقية في مجتمعات لا تعرف القانون وجاهلة ومتخلّفة.

الإصلاح المأمول لا يمكن أن يتمّ في زمن سقوط السّلطات والمرجعيات، وظهور قادة وزعماء عبر الإنترنت والفضائيات. كيف تصلح العالم الإسلامي مثلاً؟ تقنع كل رجال الدين بتغيير خطابهم وهم بالملايين؟ تقنع الدّول الإسلامية باتخاذ أجراءات عقابية بحقهم؟ هذا ما كان يحصل في بعض الدول أصلاً ولم ينفع الأمر. هل نغيّر المناهج في زمن أصبحت المدرسة هي الحلقة الأضعف في التعليم ونشر الأيديولوجيات، لكي نحصل ربما بعد نصف قرن على نتيجة ما؟ هل ندعو للحوار؟ الحوار مع من والعالم الإسلامي فيه آلاف المرجعيات الصغرى والكبرى والخلايا النائمة وغير النائمة في كلّ أنحاء العالم؟
وسائل الإنتاج الخطابي والديني أصبحت اليوم في متناول أيّ شخص في غرفة نومه، من دون أن ننسى وسائل القتل والتدمير التي باتت سهلة الإنتاج، وهذه كلها لم تكن متوفرة قبل نصف قرن أو قرن من الزمان حيث كان من الممكن نشر أيّ تعليم من خلال بضعة رجال دين مدعومين من السّلطة مثلاً، أو ممن يديرون مدارس أو جامعات، كما حصل في بلاد الشام ومصر مثلاً في القرن التاسع عشر.

  ما سبق كان تحليلاً، أمّا التركيب أو التأليف فيمكن أن يكون على الشّكل التالي، وهو أنّ الأمر بات مختلفاً اليوم عن أيّ عصر سابق، فهذا الزّمن لا يشبه غيره لا في كامل الشكل ولا في المحتوى ولا في كامل منهجيات المعرفة والسلوك (الاختلاف الأخير بسبب تمكّن الفرد الآن من القيام بأدوار أكبر من حجمه بكثير بسبب انتشار التقنية)، لذلك فإنّ التغيير على المستوى الجماعي الشامل مستحيل، لأنّ السيطرة المطلقة للدّول على شعوبها قد سقطت فعلياً. ورغم سهولة التواصل ونشر الأفكار اليوم، إلّا أنّ الحكم الفعلي هو للشركات والحركات الفوضوية وأصحاب المال والعصابات الدولية، بالإضافة إلى نقصان التفاوت في قدرات الدول الصغرى والكبرى وتأثيرها على المستويين الإقليمي والدولي.  وبالتالي، فإنّ الحروب القادمة قريباً لا يمكن التنبّؤ بها فقط بناءً على بعض أشكال المواجهة التي تشبه عصراً قد مضى.  التفاؤل اليوم قد يشبه التفاؤل قبل الحرب العالمية الأولى او في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.  إذا كان من شبه بين اليوم والأمس فسيكون فقط شبهاً بين الاستثنائيات، أي بين غرابة اليوم وغرائبيات الأمس وعدم قابليتها للتوقّع.  التركيب اليوم يفوق التحليل وهو أنّه يتوقّع أنّ ما هو قادم قريباً غير قابل للتوقّع الدقيق، مع كل ما يصاحب ذلك، ويا للمفارقة، من تنبّؤات واحتمالات!

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.