التدخّل الرّوسي: فرصة سوريا في تحقيق هويّتها الشّرقيّة
بقلم فادي أبو ديب
عندما أشجّع التدخّل الروسيّ في سوريا لا أشجّعه للانتقام من أيّ شخص أو مجتمع يقف على الطرف الآخر، لأنّ الانتقام أمر متعلّق بأمور آنية لا ينبغي الانجرار وراءها. أنا أفكّر بالسنوات المقبلة وبمستقبل سوريا بعيداً عن الأطراف المتصارعة الآن. هل نريد سوريا قادرة- بالحدّ الأدنى على الأقلّ- على الحفاظ على سوريّتها المنفتحة، أم سوريا التي تأكلها كلّ أنواع الحركات المتطرّفة، التي ستعيدنا إلى نقاشات القرون الوسطى حول طبيعة الحكم والحلال والحرام في أصغر التفاصيل التي لم نعتدها في حياتنا، وذلك بتشجيع من الضِّباع العربية، وما أكثرها!؟ فلننسَ الرّومانسية الوطنية التي لا تسمن ولا تغني عن جوع. أشخاص النظام زائلون، وأشخاص المعارضة زائلون، والرومانسيات بعد حين ستُنسى من قبل العقلاء، وحينها تأتي الأسئلة الصعبة.
الالتصاق بروسيا قدر المستطاع حالياً هو الحل الوحيد، ولو اضطرّ الأمر لهجر جامعة الدول العربية كلّها (وهو الحلّ الأفضل، بالابتعاد من بلدنا عن هيئة تحكمها مشيخات إسلامية داعمة للإرهاب في معظمها)، لأنّ الحفاظ على العناصر العربية والسورية وكلّ الهويّات الأخرى بشكل منسجم غير ممكن عن طريق الاقتراب من الدول العربية العنصرية بمجموعها، الإسلامية حتى العظام بكلّ تفاصيلها. استقلال الهويّة السورية، ويا للسخرية، مرتبط الآن أوثق الارتباط بالاقتراب الوثيق من روسيا (لأنّها هي المتوفّر الآن لإتمام هذا الغرض).
سوريا على الرّغم من كلّ سيئاتها في عهد الأنظمة الحالية والسابقة، قطعت أشواطاً مهمة نحو العلمنة، لم تحلم بها أيّة دولة عربية أخرى. أيّ حل قادم يمنح المجال لنشاط الحركات الإسلامية سيجعلنا نخسر إنجازاتنا مهما قلّ شأنها. أقلّها أنّ نائب إسلامي واحد في البرلمان قد يفتح نقاشات عفا عليها الزمن وغير منطقية، مثل هل يجوز كذا أو لا يجوز كذا: هل يجوز الاختلاط في المدارس والجامعات؟ هل تجوز البنوك؟ هل يجوز اللباس الفلاني للمرأة؟ وقيسوا على ذلك من أمور سيضطر أيّ برلمان يحتوي إسلاميين من الطراز الجهادي والسلفي والإخواني إلى نقاشها. هل أنتم سعيدون بما يحدث في مصر مثلاً؟ هل هذه سوريا التي نحلم بها؟ لا يهمّني ما يريده “الشعب”. الشعب جاهل وينبغي تعليمه جيداً قبل أن يؤخذ برأيه. هناك نخب يجب أن تقرّر مصلحة البلد.
هوية سوريا شرقية قبل أن تكون أي شيء آخر، والقواسم المشتركة بيننا وبين روسيا- عبر التاريخ- أهمّ من كلّ القواسم بيننا وبين الدول العربية التي تنحو المنحى الإسلامي. الفلسفة الاشتراكية والإنسانية التي اشتركنا بها يوماً مع النخب اللبنانية والفلسطينية والمصرية والعراقية والجزائرية والسودانية وغيرها هي قيم شرقية- غربية وليست عربية إسلامية، وهي أقرب إلى تلك الموجودة في دول غير عربية من تلك الدول العربية بتوجهها الإسلامي العام. تراث سوريا الهلّيني حُمِل جزء منه وبقي محميّاً في اللاوعي الجمعي الرّوسي وفي قلب الأمّة التي ورثت بعضاً من الفكر اليوناني الذي انتقل عبر الكنيسة الأرثوذكسية التي بدأت أصلاً في سوريا البيزنطية- الآرامية. والدليل أننا جميعاً، من حملة هذه الأفكار، نتناقش بالأفكار الإنسانويّة والشيوعية والماركسية وغيرها بشكل بديهيّ إلى أذهاننا بشكل أكبر بكثير من أمور تختص بالإسلاميات والحلال والحرام والقبائل العربية وغيرها إلى أذهاننا، وهي التي تشكّل الطابع الأساسي للهويّة العربية الإسلامية. سوريا الحديثة انبنت على مثل هذه الأفكار على اختلافها. تراث سوريا العربي أيضاً، الذي اختلط بكل أنواع الحضارات، في سوريا والعراق، والذي لا يعرف منه الإسلاميون شيئاً ويرونه علامة للكفر والزندقة، سيكون مضموناً في سوريا غير إسلامية وبعيدة عن جامعة الدول النفطية. سيكون هذا التراث محفوظاً في سوريا شرقية أوراسية قريبة من جذورها الأصيلة وليس في سوريا عربية إسلامية. نحن شرقيون، وفي هذا الوقت، الاقتراب من روسيا هو الذي يساعدنا على الاحتفاظ بشرقيتنا الإنسانية المنفتحة.