المسيحية المشرقية العربية: أزمة هويّة وانتماء وفِعل
بقلم فادي أبو ديب
تحديث أجده ضرورياً بعد انتشار هذه المقالة على وسائل التواصل الاجتماعي: إنّ هذه المقالة المختصرة، وغير الشاملة لكل التفاصيل التي يمكن التطرّق إليها حول هذا الموضوع الشائك، تتناول حال المسيحية العربية (وأقصد بها المسيحية الناطقة بالعربية في بعض النظر عن أصولها العرقية) في مرحلة معينة لاحقو من القرن العشرين وفي القرن الحادي والعشرين الحالي. وكما ألمّح في المقال فإنّ هذه الأزمة كما ترد في العنوان تستثني بصورة خاصة الأفراد المسيحيين والمدارس التي ساهمت فيما عُرف لاحقاً بعصر النهضة العربية، وهي مرحلة معينة تشمل النصف الثاني من القرن التاسع عشر والعقود الأولى من القرن العشرين. كلّ مطلّع على الوضع المسيحي حالياً يعلم تمام العلم أنّ “المدارس المسيحية” حالياً توقفت بشكل نهائي عن تقديم أيّ مساهمة ثقافية وحقيقية في فكر ولغة وأدب العرب وانصرفت نحو المناهج الاستهلاكية (مهما كانت جيدة للسوق) كغيرها تماماً.
أعرف أنني سأجرح الكثيرين بهذا الكلام ولكنني أشعر بالحاجة لقوله:
أعتقد بأنّ المسيحيين المشرقيين بشكل عام، مع وجود استثناءات طبعاً، ليس لديهم حُلم مجتمعي يسعون لأجله كمسيحيّين، على عكس المسلمين الذين ما زالوا يحنّون لدولة كبرى ترفع من شأنهم. وهذا الحلم مشروع تماماً ومفهوم، وموجود عند كل الأمم. وبغضّ النظر عن الدّرك الأسفل الذي وصلنا إليه اليوم في فكرة الخلافة والأمة الإسلامية، إلّا أنّ الفكرة بحدّ ذاتها تستدعي الاحترام، لأنّها تعني أنّ هذا الإنسان يعيش من أجل قضية ما مهما بلغ تشوّهها في هذا الوقت الحالي، وأنّ لديه نوع من الوعي لدوره الفردي ولمكانة مجتمعه بين أمم العالم.
على عكس ذلك، يقع مسيحيو المشرق في تناقض فظيع، فهم من ناحية يعتنقون ديناً معيناً ومن ناحية أخرى يطبّعون مع بعض أشدّ القيم الغربية الليبرالية المعادية للهوية المسيحية أصلاً. وهذا أمر لا أفهمه. أحلام المسيحيين فردية جداً وأنانية في معظمها. ومن ناحية أخرى هم أكثر انخداعاً بالمصطلحات الإنسانوية الغربية وهي مفاهيم هشّة لا يمكن أن تستمرّ حتى في أوروبا مع استمرار الاختلاط الثقافي الكبير الحاصل حالياً. المصطلحات الإنسانوية نتاج عقد اجتماعي معين وضرورة سوقية كان لها زمنها في عصر معيّن وهي غير قادرة على الاستمرار. المسلمون في المقابل أقلّ انخداعاً بهذه القيم، مع تطرّف موجود لدى بعضهم يؤدّي إلى رفضها تماماً.
ولكن المسيحيين في أغلبيتهم الساحقة يتبنّون ديناً معيّناً ولكنهم يفرّغونه من مضمونه، أي يأخذون الشكل المسيحي ثم يملؤونه بمحتوى فكري غير مسيحيّ تعذّبت بسببه أصلاً المسيحية نفسها في الغرب! ربما الفهم الخاطئ لقول المسيح بأنّ مملكته ليست من هذا العالم هو السبب في هذا التشتت المسيحي، ولكن لا أعتقد؛ فمعظم مسيحيي الشرق غير العربي كانت لديهم أحلام مجتمعية حققوا كثيراً منها رغم أنّهم-كمجتمع ومؤسسات- أكثر تعمقاً لاهوتياً في ما قاله المسيح، كما أنّ المسيح نفسه كان نشيطاً جداً في المجتمع، وهذا واضح في الإنجيل لأيّ قارئ، ولا يحتاج إلى كمّ كبير من التأويل. وإذا كان قصد المسيح بأنّ العمل في مملكته لا يتضمّن العمل في هذا العالم واتّباع مبدأ أنّ الأقربين أولى بالمعروف، لماذا كان المسيح وتلاميذه خليّة عملٍ لا تهدأ؟ ولماذا عمل بين شعبه العنيد والرّافض والأعمى، بينما نستطيع أن نفترض أنّ المسيح كان يمكن أن يوجّه خطابه إلى شعب “أكثر رقيّاً” علّه يحصد نجاحاً أكبر؟ لماذا لم يفهم مسيحيو سوريا ولبنان في القرن التاسع عشر ومعظم الأرثوذكس الرّوس واليونان والصرب وغيرهم، والكاثوليك الألمان والفرنسيون والإسبان والطليان وغيرهم، والبروتستانت الإنكليز والأمريكان والاسكندنافيون والهولنديون وغيرهم- لماذا لم يفهموا دعوة المسيح بمعنى كونها دعوة للتقاعس والانصراف للتأمّل المحض؟ أيُعقَل أن يكون مسيحيو البلاد العربية (وهم الأقل معرفة لاهوتية وتعمّقاً في الدراسات التأويلية التي تكاد تنعدم لديهم حتى وقت قريب) هم الأكثر فهماً لعبارة المسيح؟ أين الدليل؟
وإذا كان المسيحيّ المشرقي يعتقد بأنّه ذو فضل تاريخي على المسلمين- وهذا صحيح- جرّاء عمل السريان والمسيحيين العرب في نقل علوم الإغريق وتعليمها للمسلمين في كثير من الأحيان، فلماذا لا يأخذ على عاتقه دراسة نتاج هؤلاء التلاميذ النّجباء الذين فاقوا أساتذتهم، والاعتزاز بهم كمكوّن حضاريّ ينتمي هو إليه قبل أيّ أحدٍ آخر؟ لماذا لا يفتخر بلغته وبفلاسفة مجتمعه الثقافي، إن كان فعلاً يظنّ أنّه ذو فضل عليهم؟
بالمختصر، أخشى أنّ المسيحيين-كمجتمع أقصد- ليسوا قادرين على المساهمة الفعّالة في بناء الشرق العربي من جديد، وأنّ المسلمون هم من سيفعل ذلك لأنّهم أكثر إحساساً بأهمّية الأرض وبالانتماء إليها. المسيحي لا يشعر بأنّ عليه أن يبني أمّته التي يسكن فيها (إلا أممه القديمة المتخيّلة أو الحقيقية التي عفا عليها الزمن)، ولا يشعر بمسؤولية تجاه لغته ولا أدب أمّته التي ينتمي إليها ثقافياً ولغوياً على الأقل، ولا حتى بمسؤوليته تجاه المسلمين، بأن يكون نوراً ينوّر جوانب مضيئة ومطموسة من التاريخ الإسلامي حتى، وهي جوانب قد تنقذ المسلمين أنفسهم مما يحصل لهم اليوم من انحدار فكري ودينيّ.
من ناحية أخرى، أعتقد بأنّ هجرة المسيحيين من الشرق لم تكن لتكون كارثية إلى هذا الحدّ لولا أسباب موجودة عندهم هم أوّلاً. والسبب عميق جداً، يعود إلى صُلب تربية الفرد المسيحي. المشكلة في المسيحيين أولاً، وأمّا العوامل الأخرى فتأتي كعوامل مساعدة فقط. الإسبان لم يتركوا إسبانيا عندما دخلها العرب الذين بقوا فيها ثمانية قرون كاملة، واليونانيون والبلقانيون لم يتركوا أوطانهم رغم وحشية الأتراك، والأرمن ما زالوا يحنّون إلى أرمينيا، ويعملون لأجلها في كافّة المحافل الدولية ولم يذوبوا تماماً في مجتمعاتهم بشكل يعدم هويّتهم. المشكلة إذاً في الهوية المشرقية العربية.