بقلم فادي أبو ديب
“اللاهوتيّ الجديد”
وُلِد سمعان في آسيا الصغرى عام 949م وتوفّي عام 1022م. أُرسِل في عمر الحادية عشرة إلى القسطنطينية ليحصل مستقبلاً على وظيفة في الخدمة الإمبراطورية. ولكنه عندما بلغ الرابعة عشرة التقى بسمعان التقي أو سمعان الستوديوسي الذي أصبح أباه الروحي حتى وفاة هذا الأخير. أطلق عليه تلاميذه لقب “اللاهوتي الجديد” كتكريم له، ولتشبيههم إيّاه بيوحنا الإنجيلي اللاهوتي وغريغوريوس النازيانزي، لاهوتيَّي الكنيسة البيزنطية حتى ذلك الوقت. وتشرح الكنيسة الأرثوذكسية هذا اللقب ومدلولاته وأهميته في التراث البيزنطيّ بطريقة وافية ومختصرة:
بين الكواكب اللامعة في سماء القدّيسين الأبرار ثلاثة أُهِّلوا للقب ” اللاهوتي”: القدّيس يوحنا الإنجيلي، التلميذ الذي كان يسوع يحبّه والذي اتكأ على صدره في العشاء واغترف المياه الحيّة لمعرفة كلمة الله. والقدّيس غريغوريوس النـزينـزي الذي بعدما عاين بعين داخلية منقّاة سر الثالوث القدّوس صدح به مسخّراً لخدمته خير ما أبدعته البلاغة الهيلينية. إلى جانب هذين هناك القدّيس سمعان اللاهوتي الجديد الذي بعدما غاص في نور الروح القدس أرسله الله نبياً جديداً إلى مجتمع بيزنطي مرتهن إلى المسيحية الشكلية والرسمية شاهداً لكون كل مسيحي مستحق لاسمه مدعواً، هو أيضاً، إلى الاستنارة المقدّسة وأن يصير ابناً لله في الروح القدس.[1]
فلقب “اللاهوتيّ” لقبٌ عظيم الشأن في الكنيسة الأرثوذكسية، والحصول عليه مقترنٌ بمعاينة سرّانيّة للثالوث، وليس بقدرات تعليمية أو موسوعيّة في العلوم الدينية مهما عَظُم شأنها. ومن المفيد هنا الاطّلاع على بعض الجوانب المميّزة والجديرة بالدّراسة عند هذا اللاهوتيّ الأرثوذكسيّ.
الخلاص بالإيمان
اختبر سمعان قبل انضمامه إلى الحياة الرّهبانية اختباراً عجائبياً، وهو عبارة عن ظهورٍ للنور الإلهي غير المخلوق.[2] يؤكِّد سمعان على أنّ الله لا يشترط على الإنسان شروطاً أو أفعالاً لكي يخلّصه ويظهر له نفسه.[3] وهو يصرِّح مؤكِّداً لتلاميذه أنّه لم يقم بشيء يجعل الله يتكرَّم عليه بالظهور: “لأنه كما تعلمون فأنا لم أصم ولم أحفظ صلواتي المسائية ولا نمت على الأرض…ولكنني ’وضعت نفسي‘ وببساطة ’الربّ خلصني‘”.[4] وهو يلفت الانتباه إلى أنّ نمط الحياة المَعيش لا يضمن مستوى الحياة الرّوحية المُختَبَرة، لذلك فهو يلفت النَّظَر مرّة بعد مرّة إشارته إلى أنذ الأمر يتعلّق بقلب الإنسان وليس بمكان معيشته؛ فلا المدينة المزدحمة يمكن أن تمنع الإنسان من ممارسة وصايا الله ولا السكون والانسحاب سوف يفيدان الكسول والمهمل.[5]
ورغم التأكيد على مبادرة الله في الخلاص الذي يُمنَح كمكافأة للإيمان وليس لأيّ جهد بشريّ، إلّا أنّه يجب التنبيه إلى أنّه يجب إدراك ما الذي يعنيه سمعان بمصطلحيْ “الإيمان” و”الخلاص”، في السياق اللاهوتي البيزنطيّ. فمن المهم التأكيد هنا على ضرورة فهم ماهية “الخلاص” عند سمعان، لأنّ كلامه قد يبدو للوهلة الأولى يعني أن الخلاص يحدث في لحظة ويتمّ كما تتحدّث بذلك كثير من التيارات اللاهوتية البروتستانتية الحديثة والمعاصرة.
الإيمان كما يعرِّفه سمعان هو “أن تموت من أجل المسيح ومن أجل وصاياه؛ وأن تؤمن بأن موته يجلب الحياة؛ وأن تعتبر الفقر ثروة…وأنّ الانخفاض والاتضاع هما المجد والشرف الحقيقيَّيْن؛ أن تؤمن بأنّ المرء يملك كل شيء عندما لا يملك شيئاً…”[6] وهكذا فإنّ الإيمان في معظم جوانبه بالنسبة له هو قناعات متعلّقة بالأعمال وطريقة الحياة مباشرةً. والأمر لا يتعلّق من حيث المبدأ بدوغمائيات ميتافيزيقية بل بحقائق يمكن أن تُختَبَر وتُعاش.
وأمّا من ناحية الخلاص، فمزيدٍ من التوسّع في كتابات سمعان يُظهِر إيضاحاتٍ أكبر في معنى الخلاص لديه. فالتواضع والإيمان هما العنصران اللذان يأتيان بالخلاص الإلهي. فسمعان يذكر أهمية التواضع كتواضع العشار لنيل الخلاص. ولكن مجدداً يجب فهم هذا المصطلح في سياقه البيزنطي وليس بمعنى نوال الحياة الأبدية بطريقة لا تقبل النقض. فهو مثلاً يتحدّث عن الذين فشلوا في كسب الخلاص بسبب الكسل[7]، ثم يعود فيقول بأنّ الله وعد بمنح الخلاص جرّاء الإيمان. وعلى كلّ حال فمن الواضح إذاً بأنّ الإيمان يحتاج إلى نشاط لكي يسير نحو الخلاص التامّ. التواضع قد لا يأتي من دون إيمان أوّلاً، فالإيمان هو الذي يُشعِل “التواضع” عاملاً في النفس، ومن هذا التواضع يأتي الخلاص. ورغم أنّ الإيمان نعمة إلهية ولكنه أيضاً يخضع لحرية إرادتنا. فسمعان إذاً لا يخرج عن مبدأ “التآزرية” المحوريّ في الروحانية الأرثوذكسية واللاهوت الأرثوذكسي البيزنطيّ. ومن هنا يبدو أنّ الخلاص الذي يتحدّث عنه سمعان، كما يفعل لاهوتيون بيزنطيّون آخرون، ليس إلّا انفتاح المجال لإعادة التواصل بين الله والإنسان وليس حدثاً لحظياً يتمّ من خلاله نوال مكافآت سماوية أبدية. الخلاص هو علاقة مع الله الثالوث وحياة مُعاشة، وليس موضوعاً يتمّ التعامل معه بمبدأ الفوز والخسارة جرّاء تعامل واحد يحدث في لحظةٍ معيَّنة، فالحب هو أساس الحياة الروحية ومعرفة الله.[8] وقد سبق مكسيموس المعترف سمعان في التصريح بوضوح عن علاقة الخلاص بالإيمان والأعمال: “لا يليق أن تقولوا أيضاً بأنّ الإيمان بربنا يسوع المسيح فقط، كفيلٌ بخلاصنا. إنّ خلاصاً كهذا مشكوكٌ فيه عندما لا يأتي كنتيجة لأعمال المحبّة.”[9]
المعرفة الاختبارية
يذكر سمعان أنه تأثر بثلاثة مقاطع في كتاب “الناموس الروحيّ” لمرقس الراهب. هذه المقاطع الثلاثة تُظهِر العديد من الأفكار المركزية في اللاهوت البيزنطي الأرثوذكسي، والتي يمكن تتبّع آثارها في كتابات العديد من المعلّمين واللاهوتيين الآخرين. أوّل هذه المقاطع التي حفرت في نفس سمعان عميقاً تتحدث دور الضمير وفحصه في الخلاص والعلاقة الروحية مع الله.[10] ومكسيموس المعترف يتحدّث أيضاً عن وجوب سلوك النفس بمقتضى طبيعتها الأصلية والجميلة لكي تستطيع أن تحتقر الأهواء. فالتواصل مع الجوهر الأصليّ والصالح للإنسان أمر ممكن إذاً في اللاهوت البيزنطي، لا بل أنّه المتطلَّب الأساسي لأيّ ممارسة صالحة أو خلاص إلهي، وليس العكس.[11]
المقطع الثاني يتحدث عن وجوب حفظ الوصايا قبل محاولة البحث عن طاقات أو قوات الروح القدس.[12] وهذا أيضاً يطابق ما يقوله مكسيموس المعترف من كون الفضائل هي المرحلة الأولى التي تسبق أيّ معرفة روحية للأمور المنظورة أو غير المنظورة؛ فبحسب مكسيموس فإنّ النّوس (الذِّهن) إذا حفظَ الفضائل العمليّة يتقدَّم في الحُكم القويّ والاتّزان. وعندما يحيا في التأمّل يتقدّم في المعرفة. فالفضائل العملية تمكِّن الإنسان من التمييز بين الخير والشرّ، بينما التأمّلات تقود الإنسان إلى معرفة خواص الكائنات الجسمية واللاجسمية. وبعد هذا يستأهل النوس نعمة اللاهوت فيحلّق بالحبّ ليصل إلى سُكنى الله، وهناك يتأمل في قوى الله حسب قدرته البشريّة.[13] سمعان أيضاً يورِد نظرة مشابهة لكيفية الحصول على المعرفة الروحية، وهو يؤكِّد على وجوب طاعة الوصايا من خلال ممارسة الفضائل أولاً، قبل أن يكون هناك أية إمكانية لنوال معرفة حقيقية اختبارية لله:
من الوصايا تفيض الفضائل ومنها إظهار الأسرار المخبأة في الحروف. من إتمام الوصايا يأتي تطبيق الفضائل، وبتطبيق الفضائل إتمام الوصايا. إذاً بهذه فُتح لنا باب المعرفة. والأصح انه ليس بهذه فُتح لنا الباب إنما بالقائل :”إن أحبني أحد يحفظ كلامي ويحبه أبي.. وأظهر له ذاتي”. وعندما “يسكن الله فينا ويسكن بيننا” يظهِر لنا نفسه ونعاين بوعي محتوى الصندوق والكنوز المخبأة في الكتاب المقدس. لا نخدعنّ أنفسنا، ليس من طريقة أخرى لفتح صندوق المعرفة والتمتع بالأشياء الحسنة المحتواة فيه والمشاركة فيها ومعاينتها.[14] فالمعرفة الحقيقية هي معرفة اختبارية متدرِّجة لا تُنال من غير جهادٍ روحيّ. قمّة هذه المعارف تظهر في
المقطع الثالث الذي يذكره سمعان من كتاب مرقس الراهب، فهذا المقطع تتويج لأهميّة المعرفة الاختبارية، وهو يُشدِّد على ضرورة إدراك حقيقة أن المسيح هو ابن الله (وليس ابن داود فقط)، وأنّه يستحق العبادة. هذا الإيمان ببنوة المسيح وألوهيته هو بصيرة روحية لا يتم الحصول عليها فوراً، بل فقط بعد الاتحاد بطاقات الروح القدس.[15] وهنا قمّة المعرفة الاختبارية، فمعرفة بنوّة المسيح لله الآب لا يكون عبر خبرٍ يأتي من قراءة الكتابات المقدَّسة ولا عبر الوعظ والتعليم، بل هو إعلانٌ داخليّ يختبره المسيحي؛ يختبر أنّ المسيح هو بالحقيقة ابن الله. قد يكون الأمر إذاً أشبه بشعور حدسيّ داخليّ يجعل الإنسان يشعر بالثقة المطلقة بقدرة المسيح الفائقة. وهذه المعرفة ليست غريبة عن روح الإنجيل، فيسوع المسيح نفسه قال لبطرس بأنّ معرفته بأنّه المسيح ابن الله الحيّ كانت إعلاناً إلهياً (مت 16: 17)، كما أنّ بولس الرّسول يقول بأنّه لا يمكن لشخص أن يعترف بأنّ يسوع ربّ من دون الروح القدس (1 كو 12: 3). من الواضح أن أيّ شخص يمكنه أن يلفظ شفهياً مفردات هذه الحقيقة، ولكن الاعتراف أمرٌ آخر، فهو يتعلّق بمعرفة يقينية داخلية. وهذه المعرفة الاختبارية تمتدّ أيضاً لتكون الوسيلة التي يمكن للمسيحيّ من خلالها إدراك ماهية مرحلة بعد الموت وما هو قادمٌ فيها. ويشرح سمعان بأنّ “الوعي لضعفنا الحقيقي يولّد الوعي الكامل mindfulness، فالذين يريدون أن يعرفوا ما هو قادم (معرفة حالة ما بعد الموت) يجب أن يفصلوا أنفسهم عن الأشياء التي في العالم.”[16] فحتى معرفة ما بعد الموت لا تتعلّق بمعرفة مأخوذة من الكتابات المقدّسة، بل معرفة تنسكب في العالم الجوّاني للإنسان. كما أنّ الوعي الكامل للموت mindfulness of death هو الذي يفتح عين النفس لرؤية الحقيقة والتخلص من خداع الماديات والأفكار العالمية.[17]
الأب الروحيّ
تتّسم نظرة سمعان للأب الروحي ودوره بالصّرامة وعدم التهاون. فينبغي على الأب أن يطاع حين يمنح شيئاً أو ينهي عن شيء،[18] فتبعيته ليست إلّا تبعية للمسيح،[19] وهو في مكان الله بالنسبة لابنه الرّوحيّ، ومّن يُسائله فإنّما يخدع نفسه،[20] لأنّ الموت والحياة في يدي هذا الأب الروحيّ.[21] ويظهر تشدّده في هذا المجال واضحاً في رفعه لأبيه الروحي “سمعان الستوديوسي” إلى مرتبة قدّيس بُعيد وفاته، الأمر الذي سبّب له المساءلة.[22] ولكن في نفس الوقت يحذِّر سمعان من اعمال الشيطان التي تأتي من الآباء الروحيين المزيّفين الذين يسعون إلى المباحثات الغبية مع تلاميذهم، فيحثّونه على التهاون مع الجسد. ورغم أنّ الأب الروحيّ الحقيقي قد ينصح ابنه الروحيّ بالرّاحة أحياناً، إلّا أنّ الأب المزيّف يهين التلميذ الجادّ إذا رفض، ويبدأ بالسخرية منه.[23]
الصّلاة الحقيقيّة
موضوع الصلاة بالنسبة لسمعان اللاهوتي موضوعٌ غاية في الأهميّة والخطورة، ولا يمكن الاستخفاف به أو أخذه على غير محمل الجدّ، لأنّ عواقبه قد تكون وخيمة وغير قابلة للإصلاح. وهو يقدِّم ثلاث منهجيّات في الصلاة. ولكنه ينبِّه إلى أنّه من غير المسموح الخلط بين هذه المنهجيات أو استخدامها في غير أوقاتها المناسبة.
-
المنهجية الأولى
يقدِّم سمعان وصفاً مختصراً لهذه المنهجية بالشكل التالي:
يرفع [الشخص] يديه وعينيه وذهنه باتجاه السماء، ويملأ ذهنه بالأفكار الإلهية، مع صُوَرٍ للجمال السماوي والحشود الملائكية…بالمختصر، فإنّه يجمع في ذهنه كلّ ما سمعه من الكتاب المقدَّس، وهكذا يدفع بنفسه إلى التوق الإلهي وهو يحدّق باتجاه السّماء.[24]
وبكلمات أكثر بساطةً، فإنّ هذه الحالة تتركّز بصورة أساسية على إعمال المخيّلة والقدرات التصوّرية والفِكرية للإنسان، وربّما يمكن القول بأنّ معظم الناس يندفعون إلى هذا النوع من الصلاة لِما يمنحه للذّهن من تلاوين وتخمينات. إنّ الذّهن في هذه الحالة أشبه ربّما بذهن الفنّان أو الشّاعر الذي يُغرِق في الخيال ويستخدم كلّ ما لديه من ذخائر فكرية منطقيّة وشعوريّة للوصول إلى حالة من الانتشاء والابتهاج الداخليّ. لذلك فلا عَجَب أن يقول سمعان بأنّ هذه المنهجية في الصلاة تؤدّي إلى الكبرياء، وذلك لأنّها بحسب قوله تمنح الإنسان شعوراً زائفاً بالنعمة الإلهية، وهو ليس إلّا وهم قد يؤدّي بصاحبه إلى الجنون أو الانتحار.[25]
-
المنهجية الثانية
بحسب سمعان فإنّ هذه المنهجية الثانية تختلف بشكل أساسي عن المنهجية الأولى لأنّها لا تستعمل الحواسّ والتصوّرات العالمية ولا تمنح للمخيّلة حرّيتها التامّة؛ فالمُصلّي يسحب المرء ذهنه من الأشياء الحسّيّة ويركّزه في ذاته، وهو يحمي حواسه ويستجمع أفكاره، مُتناسياً الأشياء الباطلة في هذا العالم. إنّه يفحص أحياناً أفكاره وأحياناً أخرى ينتبه إلى كلمات الصلاة، ومن ثمّ يعود في مرّاتٍ أخرى ليسحب أفكاره من جديد.[26] ورغم أنّ سمعان يُقرّ بأنّ هذه المنهجية أفضل من الأولى، إلّا أنّه يرى فيها أخطاراً أخرى أيضاً، تتمثّل في أنّ الشخص لفرط انتباهه إلى نفسه وأفكاره والهجومات الشيطانية على الذِّهن قد يُصاب أيضاً بالغرور والاستعلاء على الآخرين، كما أنّه قد يقع أيضاً في فخّ التقدير المبالغ به للذات، رغم أنّه وبسبب انتبااهه المفرِط يصبح أسيراً لهجومات العدوّ.[27]
-
المنهجية الثالثة