لوقا 17: إشراق جوّانيّ أم مجيء المسيح ثانية؟


بقلم فادي أبو ديب

سأتجاوز في التأمل التالي إحدى أشهرالقواعد المتعارف عليها في “علم التفسير الكتابي”، وهي: إحصاء كل النصوص التي يُفترض أنّها تتكلّم عن أمر معيّن.  ومن الجدير ذكره هنا أن هذه الطريقة الاستقرائية طريقة حديثة تتبع منهج التجريب الفيزيائي، وفي حال جدّية تطبيقها، لا يمكن تقريباً لأي واعظ أن يعظ عظة ولا يمكن لحكيم أن يتأمّل في مقطع، من دون أن يدرس بشكل علمي واستقرائي أجزاء كبيرة من الكتاب المقدس.  ومن الواضح أنّ الممارسة الدينية عبر العصور لا تعترف دائماً بقاعدة كهذه، كما أنّ هذه القاعدة تنفي ضمنياً إمكانية أن يقدّم مقطع معيّن معرفة نفّاذة إلى قلب الحكمة الروحية.  إنّها قد تفترض أيضاً أنّ كلّ النصوص تحمل ذات القيمة وأنّ الكثرة تغلب القلّة (من ناحية عدد النصوص)، وأنه لا يمكن لمعلّم مثل المسيح أن يقول في جملة واحدة ما يمكن أخذه على محمل الثقة المطلقة.

وللدخول سريعاً في الموضوع، فإنّ نصّ لوقا 17 يشكّل مادّة مثيرة تختص بموضوع المجيء الثاني للمسيح، كما أنّ بعض التيارات تتخذ المقطع كدلالة على حدث غريب يسمّونه “الاختطاف”، يفترضون من خلاله أنّ “المؤمنين” سيختفون في يوم ما أو ليلة ليلاء مرتفعين إلى السماء حماية لهم من الغضب الإلهي الذي سيحلّ على الأرض.

مع ذلك فإنّ كلام المسيح في هذا المقطع يمكن أن يُفهم على أكثر من وجه؛ فهو يصرّح بأنّ “ملكوت الله لا يأتي بمراقبة، ولا يقولون: هو ذا ههنا، أو هوذا هناك!”  ثم يتابع بعبارته الشهيرة التي شكّلت فيما بعد عنوان إحدى أشهر أعمال تولستوي:  “لأنّ ها ملكوت الله داخلكم.”  مع ذلك، يريد البعض لهذه الجملة الأخيرة أن لا تعني ما تعنيه، فالدلالة الباطنية فيها قوية إلى درجة لا يمكن أن يتسامح معها عصر “التنوير” وكثير من التيارات اللاهوتية “العلموية” الحرفية التي تتبع الطرق المخبرية في دراسة النصّ (يمكن هنا الاستعانة بكتاب جيمس سوير The Survivor’s Guide to Theology لفهم العلاقة العضوية بين التيارات الأصولية والفكر الأمبيريقي التجريبي)- إذن لا يمكن لهذه التيارات أن تتسامح مع الباطنية والغموض والتصوّفية التي تشير إليها عبارة مثل “ملكوت الله في داخلكم” والتي تشبه في بعض دلالاتها المقولة الشهيرة “وتحسب أنّك جرمٌ صغيرٌ/ وفيك انطوى العالم الأكبر”.  وهكذا أرادوا أن يجعلوها “ها ملكوت الله في وسطكم”، لتعني أن المسيح كان يشير إلى وجوده “جغرافياً” أو “طبوغرافياً” في وسط الجماعة المخاطبة!  هذا على الرغم من أنّ يسوع كان قد سبق عبارته هذا فإنّ ملكوت الله لا يأتي بمراقبة ولا يمكن أن يُقال إنّه هنا أو هناك.

ثم يتابع المسيح لينتقل إلى الحديث عن “يوم ابن الإنسان”، وهذه نفسها عبارة على شيء من الغموض، إن لم نقل هي من الاغتلاق.  أيضاً هو يحذّر أنّ ابن الإنسان في “يومه” يكون مثل البرق الذي “يبرق من ناحية تحت السماء يضيء إلى ناحية أخرى تحت السماء.”  ويحذر مستمعيه من أن لا يذهبوا ولا يتبعوا أيّ من يقول لهم هوذا هنا أو هوذا هناك.  التفسير الشائع لهذه العبارة أنّ مجيء المسيح سيكون مجيئاً فيزيائياً/ملموساً وسريعاً مباغتاً مثل البرق أو مثل اللص كما يعبّر عن ذلك إنجيل متى 24.  ولكن إذا أخذنا الأمور بحرفيتها سنسأل السؤال التالي:

إذا كان مجيء المسيح مثل البرق، فما المشكلة أن نصغي إلى من يقول لنا إنّه هو ذا هنا أو هناك؟  فهو سيأتي بشكل مباغت ويحلّ في مكان جغرافي ما.  بعد ذلك سيكون بإمكاننا أن نذهب إليه هنا وهناك ويكون ملكوت الله حينها قد حلّ وسنراقبه بأعيننا.  ألا يعاكس هذا كلام المسيح نفسه، هنا في إنجيل لوقا 17؟

المسيح إذن ينفي إمكانية حدوث هذا، وتبقى الناحية الأوضح في مجيئه أو ملكوته أو يومه هو أنّه كالبرق.  حتى الآن هذه هي المعلومة الوحيدة الأكيدة والواضحة، بعد معلومة أنّ هذا الملكوت “في داخلكم”.

يتابع يسوع في محاولة تقريب فكرة مجيئه/ قدوم يومه إلى مستمعيه بتقديم توصيف مطوّل آخر يفيد في مضمونه صورة البرق التي مرّت منذ قليل؛ فهو يشبّه الأمر بالدينونة التي حلّت على سدوم وعمورة وبالطوفان الذي أتى على قوم نوح،، ثم يكمل ليحذّر مستمعيه من أنّه عند حلول هذا اليوم فالموجود على السطح لا يجب أن ينزل إلى البيت ليأتي بأغراضه والذي في الحقل لا يرجع إلى الوراء.  وهذا التحذير غريب للغاية!  ما المشكلة إذا نزل الشخص وأخذ حذاءً إضافياً ورغيف خبز و”بطانية”؟  لماذا يفترض المسيح أصلاً أنّ بعضهم قد يفعل ذلك؟  أين سيذهبون مع هذه الأمتعة المحمولة في يوم مجيء المسيح؟  هل سيكون هناك هجوم عسكري مثلاً؟  هل النزول من السطح إلى البيت سيكون حاسماً إلى هذه الدرجة في إنقاذ حياة الإنسان؟  هل ستمطر السماء ناراً يمكن للمرء الهرب منها جرياً على الأقدام في حال كان سريعاً بما يكفي والنزول إلى البيت سيؤخره بشكل إضافي فتلحق به النار؟

لا يمكن إذن فهم الأمر بهذه الطريقة!

فهم الأمر كلّه يتعلّق بفهم جملة تقتحم السياق اللاهب للأحداث الموصوفة، يقولها المسيح وكأنها تأتي من كوكب آخر:  “من طلب أن يخلّص نفسه يهلكها، ومن أهلكها يحييها.” هذه العبارة مكرّرة في أماكن أخرى في سياق وصف الموقف الروحي للإنسان من أناه ومن الله.  إنها تصف حالة إنكار الذات/إهلاك النفس التي تؤدي إلى الحياة/الملكوت/الحية الأبدية، ونستطيع أن نضيف أنها تؤدي إلى التفاعل الإيجابي مع “يوم ابن الإنسان”.  لماذا يصرّح المسيح بعبارة كهذه في وسط وصفه لأحداث يفترض الفهم الحرفي لها أنها تصف نهاية العالم وحلول الدينونة على الأرض؟  هل يمكن للإنسان وقتها أن يتخذ قراراً حاسماً بتخليص النفس أو إهلاكها عبر عدم العودة إلى البيت من الحقل أو من سطح المنزل؟

نعود إلى العبارات التي تحذر من العودة من السطح أو من الحقل إلى البيت.  ماذا تشبه هذه العبارات؟  تشبه تحذيراً آخر موجوداً في مكان آخر لا علاقة له بمجيء جغرافيّ للمسيح.  وهذا هو النصّ:

لَيْسَ أَحَدٌ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى الْمِحْرَاثِ وَيَنْظُرُ إِلَى الْوَرَاءِ يَصْلُحُ لِمَلَكُوتِ اللهِ. (لوقا 9: 62)

التحذير من العودة إذن هو تحذير من التردّد! نعم، من التردّد!  في لحظة الإشراق على النفس الإنسانية هناك من يجبن ويتردّد بعد أن يكون قد اقترب من اتخاذ موقف وجوديّ شجاع يتمثّل في اقتبال الحياة الإلهية.  وهنا لا أصف قراراً بالانضمام إلى ديانة أو طائفة أو جماعة دينية، بل قراراً باستقبال ملكوت الله في داخل النفس.  إنّه قرار بأن يتوقّف عن مراقبة ملكوت الله في الخارج:  في الديانات والعقائد والتعاليم والجماعات والتيارات.  ويقف عارياً في مواجهة السرّ الأكبر للوجود، وبفرح وبثقة من أنّ مغامرة الحياة تستحقّ لأنها ليست مجرّد مغامرة بل يمكن أن تكون برّ وفرح وسلام بالروح القدس، لأنّ ملكوت الله ليس أكلاً وشرباً، وليس مملكة يدخلها اللحم والدم بل تدخله الرّوح من حيث هي واقفة وفي “يوم ابن الإنسان”.

هكذا وفي لحظة الإشراق “يكون اثنان على فراش واحد فيؤخذ الواحد ويترك الآخر” و”تكون اثنتان تطحنان معاً فتؤخذ الواحدة وتُترك الأخرى.”

الإعلان

2 comments

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.