إنّ الشائع، والذي يبدو أقرب إلى التصديق اليوم، بخصوص المذاهب الأصولية هي أنّها نتاج مباشرٌ للأديان التي تشكّل مصدراً نصيّاً وتاريخياً لها. ولكن التدقيق الأعمق في هذه الفكرة يُبدي بصورة لا تقبل الشكّ هزالتها وضعفها وعدم صحّتها. وبالتأكيد فإنّ هذه الأصوليات هي ظواهر ناتجة عن الأديان، ولكنها ناتجٌ غير مباشر، أي أنّ علاقتها بالأديان علاقة الجرثومة بالمياه التي شكّلت وسطاً حاضناً لها. فهل المياه “مذنبة” لأنّها تشكّل الوسط الذي يسمح للجرثومة بالاستمرار والتكاثر؟ هل تستحق الأنهار أن تُردَم (إذا كان هذا ممكناً) لأنّها تسبب تسمّم الكثيرين سنوياً؟ أم أنّ المذنب هو السافل الذي يرمي بنفاياته في المياه؟ أو الحارس المرتشي الذي يسمح لأصحاب المعامل أن يصلوا إلى رأس النبع ويستعملوه كمكصرفٍ لفضلات طمعهم وطموحهم المنحطّ؟ سأترك الإجابة للقارئ الذي أثق بحكمته.
على أيّة حال، موضوع هذه المقالة ليس الدفاع عن الأديان؛ ولا واحد منها. بل غرضي هو تتبّع المصدر الحقيقيّ للأصوليات النصّيّة الحديثة والمعاصرة. قد يكون من السّهل اقتباس بعض العبارات من بعض المراجع لتوضيح ارتباط هذه الأصوليات بأشخاص معيّنين مرّوا وعاشوا عبر التاريخ. لكن هذا ليس مهماً أيضاً، بل المهم هو التفكير المنطقيّ والتفكّر في هذا الأمر.
الأصولية النصّيّة هي بدايةً محاولة عودة أتباع مذهب فكريّ أو دينيّ معيّن إلى “الأصول” باستخدام نصوصهم المقدّسة والأبحاث التاريخية المتعلّقة بها.
هذا التعريف يمنحنا أوّل الخيوط التي تقودنا إلى مصدر هذه الأصوليات. فهي بحاجة أوّلاً إلى نصّ مكتوب وتحتاج أيضاً إلى قدرة على التعامل مع هذا النصّ.
والتعامل مع هذا النصّ يحتاج إلى أدوات ومعارف نحويّة وتاريخية وإمكانيات متعلّقة بالفحص الأثري (بما يشمل ذلك من مواقع جغرافية أو مخطوطات قديمة). وهذه الوسائل والأدوات تترافق بشكل بديهيّ مع تعاملٍ دقيق وعلميّ مع المادّة موضع البحث. التعامل العلميّ يعني بالضرورة تطبيق قواعد البحث العلمي (الفيزيائي وما شاكله) على النصّ، أي اعتماد تقنية “الاستقراء”، بمعنى أننا ندرس الحالة/الحالات التي تمرّ أمامنا، ونجمع النتائج، وبعد الانتهاء نقدّم الخلاصة التي لا تعترف إلّا بما مرّ أثناء التجربة. ومن هنا فإنّ الأصولية النصية تتعامل مع النص بشكل حرفيّ (قد يزيد أو ينقص بحسب الحالة والمكان والسياقات الأخرى) لأنّ الوسائل المستخدمة في هذا البحث تعتمد في اغلبيتها على قراءة واستقراء المادّة التي تمّ جمعها بالحواسّ الخمس وما يتبع هذا من التصنيفات الكثيرة والقوائم والجداول التي تعزل العناصر بعضها عن بعض وتقيم لكلّ منها كياناً منفرداً لا يتداخل فيه مع كيانات العناصر الأخرى.
هذه الإمكانيات لم تكن متوافرة قبل عصر الحداثة إلا في نطاقات ضيقة ومحدودة لأسباب كثيرة يمكن أن نعدّد بعضها:
1- عدم توافر النصوص بشكل واسع، وعدم توافرها أبداً في أيدي العامّة.
2- عدم توافر تقنيات علمية حديثة تتيح الفحص الأثري مثلاً.
3- عدم توافر إمكانيات تفسح المجال لدراسات لغويّة معقّدة ودقيقة، كالقواميس المتخصّصة والقواميس الفيلولوجية التي تمنح القدرة على دراسة ظهور المفردات عبر التاريخ بشكل متسلسل.
4- عدم توافر الإمكانيات السابقة كانت تجبر من يمتلك النصّ على استعمال خياله وحدسه، وكانت تجبر العامّي الذي لا يملك النصّ على الاعتماد شبه المطلق على الثقافة الشفهية المتناقلة وتحويراتها، بالإضافة إلى الاعتماد على خبرته وتجربته في الحياة.
بالإضافة إلى ذلك فإنّ ظهور مفهوم الدولة الحديثة بما تمثّله من نموذج قانونيّ تكون فيه المرجعية الوحيدة هي القانون (ككيان اعتباري لاشخصانيّ) يفرض بالضرورة ضرورة عدم إفساح المجال بشكل حرّ للتأويلات المختلفة التي لا تعتمد على مرجعية معيّنة ومكتوبة يمكن التحقّق من محتوياتها ومحاسبة من يخالفها أو يبتعد عنها بشكل غير مقبول. من هنا مثلاً نرى التوافق، الذي قد يبدو غريباً للوهلة الأولى، بين وجود نصّ مقدّس يخضع للتأويل والتفسيرات (الحرفية كلها بشكل يزيد أو يقلّ) ووجود شيء اسمه “دستور الدولة” الذي تُستخرج من قواعده كافّة التشريعات أو يتم القياس عليها (منعاً لاستبداد الحاكم بالمحكومين وإخضاعه إيّاهم لنزويّة قراراته كما كان يحدث في الأزمنة الملكية والإمبراطورية).
فالأصولية النصّيّة كانت ضرورية في بدايات الحداثة الأوروبية مثلاُ لكفّ اليد النزوية للسلطة الدينية في أوروبا. ولم تبدأ هذه الأصولية النصيّة بترك عرشها في بعض المناطق و”عودتها” (وأشدّد هنا على عملية العودة وليس التحوّل الكامل) إلى أشكال أكثر مجازية عُرفت بها المسيحية في قرونها الأولى- لم تترك عرشها إذن إلّا بعد ظهور نصوص “مقدّسة” بديلة ذات مرونة أكثر تُسمّى الدساتير، التي لا تمنع قداستها تغيير بعض ما فيها وإعادة كتابته بين حين وآخر (إعادة الكتابة هذه تقابل تغيير تأويل النص الديني. ولكن إعادة الكتابة تبقى أسهل لأنّها تفسح المجال لانتقاء مفردات أكثر مباشرةً واتصالاً بالمعنى المُراد)؛ فهي مقدّسة على الأقل خلال فترة صلاحيتها، مع أنّ هذا يمنحها بالطبع مرونة أكبر بكثير من مرونة النص الديني.
هذه المرونة غير ناتجة من الطبيعة “المتسامحة” للنصوص الجديدة بشكل أساسي، بل من طبيعتها غير الشعائرية من ناحية ومن التحديث المستمرّ للمفردات خلال عملية إعادة الكتابة. فالفرق بين النصّ الديني والمدني هو فرق تقنيّ بالدرجة الأولى وليس فرقاً من ناحية السّلطة أو المكانة أو الصّفة. يجب ألا ننسى أيضاً أنّ الشرائع الدينية القديمة كانت أيضاً تحتوي على أقسام مدنية مهمّة وليست مرتبطة مباشرة بممارسات دين الدولة.
وعلى الرغم من أنّ القوانين الكثيرة والمعقّدة الموجودة حالياً أسوأ بكثير من ناحية قدرتها على تعقيد حياة المواطن من أسوأ شريعة دينية قديمة، إلا أنّ الطبيعة غير اليومية لهذه القوانين (أي أنّ المواطن قد لا يتعرّض للتعامل مع معظمها بشكل يومي) خفّفت من استبدادها، هذا بالإضافة إلى تفكّك السلطة الاجتماعية والمرجعيات الصغرى في المجتمع التي كانت تراقب عادةً الفرد وسلوكياته.
هذا قد يفسّر إلى حدّ كبير معارضة المذاهب الدينية الحديثة (كالنصّيّة المحافظة ضمن المسيحية والسلفية في الإسلام مثلاً) للتوجّهات التصوّفية والثيوصوفية وكلّ الأفكار والمنظومات المعرفية التي تُصنّف على أنّها “غامضة” و”باطنية” والتي توصم في بعض الحالات بأنّها شيطانية. هذه الحركات الحديثة تحاول قطع الرابط البديهيّ بين الدين والغموض والتجارب النفسية والروحية الغريبة. ورغم أنّ هذه المحاولة ليست جديدة (فلطالما كانت مرافقة للسلطة الدينية الابراهيمية) إلا أنّها أخذت شكلاً طبيعياً ومتّفقاً عليه إلى حدّ كبير بين المتديّنين في العصر الحديث. وسبب هذا العداء واضح، فهو نفس سبب العداء التي توجّهه سلطات الدولة الحديثة تجاه القناعات السياسية “الراديكالية” (حتى التي لا تتسم بالعنف)، وهو أنّ التجارب النفسانية والحياتية الأخرى التي لا يمكن استخراجها أو دعمها من نصّ مكتوب يمتلك الدارسون المخوّلون مفاتيحه تخلّ بإمكانية السيطرة على مصادر الأفكار المسموح بشيوعها ولا تسمح بإمكانية التحقّق منها والتعامل معها من خلال النصّ نفسه.
هذا الاحتكام الحصري إلى النصّ: دينياً كان أم “علمانياً” (والتسمية الأخيرة لا معنى لها إذا نظرنا إليها من زاوية مركزية النفوذ والسّلطة، فهي مجرّد نصّ دينيّ من طبيعة حديثة لا يستخدم مفردات قديمة بعض الشيء، رغم أنّه يستخدم مفردات على نفس المقدار من القابلية للتلاعب: “دولة”، “إنسان”،”حرية”،”قانون”…إلخ)، هذا الاحتكام الحصري إلى النصّ كإمكانية معرفية وحيدة هو بكل تأكيد سابقة تاريخية لا مثيل لها على هذا النطاق الواسع والعريض.
وهكذا يكون واضحاً كما أظنّ انتساب الأصوليات النصية المعاصرة إلى عصر الحداثة وما بعده وليس إلى ما قبل الحداثة. ومن نافل القول أن نذكر أنّ الأصولية ليست مرادفاً للتعصّب؛ فعلى الرغم من أنّ كلا الظاهرتين يشكّل رافداً للآخر إلا أنّهما غير مترادفين. فالتعصّب هو الارتباط الوثيق للشخص أو الجماعة بمعتقدها حتى لو كان تقدّمياً غير أصوليّ ورفض ما عداه رفضاً باتّاً ونهائياً. أمّا الأصولية النصية فقد سبق شرحها أعلاه وتبيّن لدينا ارتباطها الضروريّ والمنطقيّ بالوسائل التقنية الحديثة والمنهجيات المعرفية المرافقة للعصر السّلطويّ الحديث.