إنّ المحبّة التي تستلزم شروطاً ليست محبّة. والمحبّة التي لا تصل إلى أقصاها ليست محبّة كذلك، لأنّ “الرحمة تفتخر على الحكم”، والرحمة من المحبّة، والحُكم يبتغي العدل والحقّ وهو بحسب الحقّ في أفضل أحواله. فالمحبة تتفوّق على الحقّ لأنّ المحبّة لا نهائية. واللانهاية تفوق بما لا يُقاس أيّ مقدار مهما عظم. فالمحبة تفوق الحقّ بما لا نهاية. من قال إنّ الحقّ ينتهي؟ الحقّ يُشار إليه ويُحصَر في عبارات فهو ينتهي ولكنه يعبّر عمّا لا ينتهي الذي هو المحبّة.
فمن يمتلك المحبة لم يعد بحاجة إلى الحقّ الذي ينحصر في العبارة، لأنّ الأخيرة وسيلة وحين نعرف الغاية لا نعود نحتاج الوسيلة إلّا كتذكير.
أليس المسيح هو الحقّ في الإيمان المسيحي، وهو القائل “أنا هو الطريق والحقّ والحياة”؟ أليس المسيح هو كلمة الله الذي لا قياس له ولا نهاية، فكيف يكون الحقّ منتهياً/ متناهياً؟
للإجابة على هذه التساؤلات يجب أن لا نغترّ بالمفردات وتشابهها أو تطابقها: فالمسيح هو الحقّ والنصوص المقدّسة هي الحقّ وكلام جدّي العجوز في سياق ما يمكن بضمير صافٍ أن يوصَف بأنّه “الحقّ” (ومع أداة التعريف أيضاً). هذا لا يعني أنّ هذه الثلاثة تتساوى أو تتطابق. فكلّ منها له دلالة معيّنة ومرجعية معينة حتى لو كان اللفظ له المعنى عينه معجمياً. ليس المعجم اللغوي هو ما يحكم أو يتحكّم بنا فهو في النهاية من وضعنا وتصنيفنا نحن.
كيف تكون كلمة الله السرمدية مساوية لمحتويات نصّ ما؟ هذا ببساطة غير ممكن، إلّا إذا قلنا إنّ النصّ هو “الحقّ” لأنّه يدلّ (ولا يحتوي على) الحقّ. الفرق بين الدلالة أو الإشارة والاحتواء فرق كبير. فالإشارة إلى الشيء تعني توجيه النظر إليه أما الاحتواء فيعني حيازة الشيء بصورة كاملة ونهائية لا تقبل الإضافة أو التأويل أو الاكتشاف إلا ضمن أطرٍ معيّنة ومشروطة بشروط متعددة. وعاجلاً أم آجلاً ستقف إمكانية النصّ المنتهي عاجزة عن مخاطبة كلّ ما يهمّ الإنسان من تساؤلات ضرورية وأزمات وجودية. من هنا يمكن فهم ضرورة وجود ما يحيط بالنصّ كشرط لاستمرار قدسيّته، بمعنى أنّ النصّ يتقدّس عن طريق ما يجعله قابلاً للحياة. وما يجعله قابلاً للحياة هو في المقام الأول ما يجعله قابلاً للقراءة وموضوعاً للتأمّل- إنّه الاختبار البشري في أكثر حالاته انفتاحاً وتقبّلاً. هذا الانفتاح والتقبّل ليس قيمة رومانسية البتّة بل هو بديهية حتمية لمن يقف باحترام أمام المجهول والخافي ومن يقف يتوقّع أمام نصف القمر مرتجياً أن يلمح شيئاً من نصفه الآخر.
الحقّ يبدأ في التناهي إذن عندما يبدو النصّ غير قابل وغير قادر على احتواء كلّ الحق. إنّه منتهٍ من حيث أنّه لا يستطيع إلّا أن يستخدم مفردات شبحية للتعبير عن حقائق لم نختبرها يوماً أو ربما ستُختَبَر لاحقاً بشكل ما. في كلّ الأحوال لا يمكن للنصّ أن يضمن حصول هذا الاختبار وبالتالي لا يمكن أن يضمن وصول هذا الحقّ. ليس النصّ- من هنا- حقّاً في حد ذاته لأنّه إذا كان هو كل الحق انعدمت الحاجة لما يتجاوزه وانعدمت الحاجة إلى الاختلاف بشأنه. ولكن الاختلاف جزء من وجوده (وليس خطأ يطرأ على قارئيه، فلم يمرّ على الاختبار البشري نصّ غير قابل للاختلاف، وبالتالي يكون الاختلاف عنصراً ملازماً للّغة) كونه يستعمل مفردات لغوية لكلّ منها الكثير من الدلالات المعجمية التي طوّرناها نحن ولا أحد غيرنا والتي تستمرّ في التحوّل والتغير. وطالما أنّ النصّ دائم التحوّل لأنّنا لا نستطيع أن نقف على كامل محتوى مفرداته وعباراته فهو ليس الحقّ السرمدي لأنّ الحق لا يتحول بحسب المعتقد المسيحي نفسه، بل هو إشارة إلى الحقّ، وكلّ ما يُستخرج منه إشارة إلى الحقّ. النصّ يُشير ويُنير ويُبني ولكنه لا يمكن أن يتطابق مع هوية المُشار إليه ومع النّور نفسه ومع البيت السماويّ السرمديّ.