بقلم فادي أبو ديب
(1)
ربما دراستي الأكاديمية لتاريخ الكنيسة الغربية وللتطوّر الفكري الغربي قد أفسدتني تماماً من بعض النواحي، لأنها جعلتني في غالب الأحيان أسمع أيّة دعوة تجاه العلمانية تخرج في العالم العربي كما لو أنني أسمع عبارة من قبيل:
“أعتقد أنّ نشر الكونفوشية في بلاد الشام سيساعد في بناء الدولة.”
ملاحظة أولى: اللادينية ليست هي العلمانية، فالأولى نفي والثانية إيجاب وهي كما نكرر دائماً نسخة عصرية من الدييزم Deism وهي نسخة لا ميتافيزيقية من المسيحية البروتستانتية بشكل خاص، ويمكن أن نعثر لها على جذور فلسفية إغريقية صلبة. يمكن للمرء أن يكون لادينياً، مثل بعض الطوائف الهندية مثلاً، من دون أن يكون علمانياً فعلاً.
ملاحظة ثانية: ستسألني ما هو البديل؟ نعم، يبدو أنك ستسأل! ليس لديّ بديل مناسب حالياً للفوضى القائمة، ولكن عدم وجود البديل لن يجعلني أدعو إلى تحويل بلاد مسلمة إلى بلاد كونفوشية!
(2)
صحيحٌ أنّه من المبالغة القول إنّ العلمانية هي آخر نسخ المسيحية الغربية، وذلك لما فيها من امتدادات تتجاوز المسيحية حتى في بعدها غير العقائدي، مثل الفردية المتطرفة مثلاُ، ولكن لا مبالغة في القول إنّ العلمانية لم تكن لتنشأ من دون بعض المحتويات التي وُجِدت في المسيحية، بعضها معروف مثل مبدأ ما لله لله وما لقيصر لقيصر، وبعضها غير معروف.
وُجِدت دائماً حتى ضمن الكنيسة تصورات للعالم حيث يلعب فيه الدين دوراً أقل بروزاً وأقل عقائديةً. ورغم أنّ الكنيسة لم تتبنّ تصورات كهذه، إلا أنها لم تستطع أن تمنع وجودها واستمرارها.
كمثال على هذا نرى مثلاً اللاهوتي الإيطالي يواكيم الفيوري (المتوفى حوالي عام 1200) يتحدث عن عصر مستقبليّ يعرف فيه الناس الله مباشرة من دون التنظيم الكنسي الواضح والمعروف. نرى نفس الفكرة بحذافيرها تقريباً ولكن بمصطلحات أقلّ دينية عند الفيلسوف الألماني فريدريش شيلينغ الذي يتحدث أيضاً عن العصر اليوحنّاوي وهو عصر الدين غير اللاهوتيّ أو غير الكنسيّ، حيث يعيش الناس الحق والعدل والمعرفة الحقة من دون عقيدة أو دين يمكن تمييزه. الفكرة نفسها تقريباً تظهر عند هيغل ولو كانت بشكل أكثر صرامةً ومنطقية رغم احتفاظها بطبيعتها الرومانسية مع نفيها شبه التام للمصطلحات الدينية. (هذا أحد أسباب غضب نيتشه ربما من كل الفلسفة السابقة واعتبارها تكراراً للدين بشكل أو بآخر. ولكن تلك الفلسفة النسقية هي التي أنتجت العلمانية والدول المؤسساتية وليست فلسفة نيتشه في النهاية).
نستطيع القول إنّ كل الأدب الرومانسي والعقلاني الغربي اللاحق اعتنق بشكل أو بآخر ذلك الشكل من الدين غير الدينيّ أو اللاهوت غير اللاهوتيّ ليصبح جزءاً لا يتجزأ من المخيال الغربي حتى وصول طلائع ما بعد الحداثة على الأقلّ.
العلمانية على اختلاف نسخها، إذا استثنينا فقط بعض الشطحات الفرنسية المؤقتة والشعبية للغاية وعمى الاستهلاك الأمريكي الوبائي، تنهل من الفكرة السابقة أعلاه أو من أحد أشكالها، هذا من دون أن نعتقد أنّ الواقع العملي ينطبق على الفكرة النظرية دائماً.