مقطع من ديوان “ميامر الحجرة العرائسية: مدخل إلى المثالية-الواقعية السحرية”
بقلم فادي أبو ديب
“رغم أنّ هذه النصوص ليست مجرّد تصوّرات شخصية، إلّا أنّها في عين الوقت لا علاقة لها تقريباً بأحداث العالم الخارجيّ: ليس فيها ثورة مباشرة على كيانٍ ملموس أو مسمّى، ولا امتعاض من حال سياسية أو اقتصادية، ولا إدانة لحرب أو ولولة على كوارث. إنّها من عالم الباطن إلى عالم الباطن، من عناصر الذّهن الأوّلية بتجلّياتها إلى عناصر النفس الأكثر فطريةً، ومن موائل الغريزة المباركة إلى العوالم الخفيفة العُلويّة (أو ربّما السُّفلية! في كونٍ كرويّ لا يكاد يُعرَف أعلاه من أسفله ولا باطنه من ظاهره).
علاوةً على ما سبق، يلعب تصوير المنامات دوراً مهماً في هذه النصوص. لن أشير إلى تلك النصوص المقتبسة من أحلامٍ قديمة ما زلت أتذكّرها، فهذا يُترَك لتنبّؤ القارئ. بعض هذه الأحلام قديمٌ جداً إلى حدّ أنّ معظم تفاصيله قد تلاشى ولم يبقَ منه إلا مشاهد قليلة وأجواء يصعب وصفها. هذا الانعدام لقابلية الوصف الدقيق أو حتى الشّرح الأوّلي (على خلاف المناظر الطبيعية الملموسة التي يمكن وصف معظمها بدقّة شديدة، ولو كان ذلك بشكلٍ أوّليّ يمكن دوماً أن يتوسّع ويتعمّق)- هذا الانعدام إذن يجعلها تبقى مصدراً لا ينضب للتصاوير المتعدّدة والمحاولات الحثيثة “للإمساك” بها، وكأنّ هذه المنامات أحداثٌ تقع في مجالٍ ما لكي توجّه أذهاننا في طرق معيّنة/ غير معيّنة ضروريّة للمسار الذي نأخذه (أو نؤخَذ فيه!). تأثير هذه الأحلام بهذه الطريقة واستمرار تواردها إلى الذّهن يُشير بتواتر معيّن إلى حقيقيّتها (والحقيقيّة تنبع من الغائيّة)، أي إنّها ليست أوهاماً أو مجرّد أضغاث بل هي أحداث ضروريّة تحصل في نطاقٍ وسيط يلتقي فيه عالم المظهريّات بعالم/ عوالم المُتعاليات غير الموصوفة. قدرة هذه الأحلام غير متناهية في توليد التصاوير والمشاعر واللّمحات الجوّانيّة الخاطفة، إلى درجة تَشي بطبيعتها اللانهائيّة ورسالتها الأبديّة. هذا هو سبب تكرار بعض الصّور والأجواء من زوايا ومساقط متنوّعة في نصوص هذا الكتاب.
…
قراءة هذه النصوص، كما هو حال القيام بالعديد من النشاطات التي تحتاج إلى عُدَدٍ أو مساعدات، لا يجب أن تؤخذ بتلقائيّة على أنّها مجرّد المرور على المكتوب، بل هي حالة تمثُّلٍ لجوّ الكتابة. صحيحٌ أنّ للقارئ من دون أدنى شكّ جوّه الخاصّ وغايته الخاصّة ومعانيه الخاصّة التي سيخرج بها، أراد ذلك أم لم يُرِد، ولكن هذا ليس مبرِّراً لإنكار طبيعة النصوص، تماماً كما أنّ العالِم المبدع يستطيع أن يدخل مختبره ويمارس فيه ما يريد من تجارب شرط أن لا يبدأ العمل من دون وصل أجهزته إلى مقابس الطّاقة.
…
إنّ قراءة النصوص باستعمال قطعٍ موسيقيّة تمتلك صوتيّاً أو شعورياً خواصّ التدفّق و/أو العمق الساكن (الماء)، الخفّة نصف الواعية و/أو اللقاءات الباطنيّة (الهواء)، الشهوانية الجسديّة-الرّوحية (التراب)، الرّجاء/الإشعاع اللطيف/الخَدَر الانتشائيّ الساكن (الضوء)، سيجعل بالتأكيد من معناها كياناً أكثر اكتمالاً ودلالةً. يتطلّب الأمر هنا تدقيقاً واستبطاناً دقيقيْن؛ فالموسيقى التي تصلح لرفع الذّهن إلى عوالم من الضوء الملكوتيّ قد لا تنفع بالضرورة للقاء سرّانيّ صامتٍ في الهواء الليليّ الخفيف، والموسيقى التي تحمل الذّهن بانسيابية الماء الانتشائية شبه الكاتمة للصوت قد لا تجد لنفسها مكاناً في ذهنٍ يعيش لقاءً جسديّاً-روحيّاً مع طيفهـ/ا. هذه النّظرة لاستعمال الموسيقى لمنح الذّهن فرصة الدخول في أجواء معيّنة ذات صفات محدّدة ليست وليدة العلم الحديثة، فقد كانت المنهج الذي دأب فيثاغورس- على سبيل المثال- على استخدامه في مدرسته، أو هي الطريقة التي كان ينتهجها التلامذة الفيثاغوريّون في حياتهم اليومية؛ فهؤلاء كانوا يلجؤون إلى الاستماع إلى أنماط معيّنة من العزف الموسيقيّ في الصّباح وإلى أنماط أخرى مختلفة قبل الخلود إلى النوم، وذلك لما في هذه الأنماط المختلفة من قوّة قادرة على فرض جوّ معيّن على الذّهن يساعد على النشاط أو على النوم الهانئ والأحلام اللطيفة. هذا الأمر الذي أنصح به كخلفيّة ترافق قراءة النصوص وليد تجربة شخصية، فالاستماع إلى أنماط معيّنة من الموسيقى يساعد على سلاسة الكتابة حول ثيمة معيّنة في حين أنّه قد يشكّل عائقاً رادعاً أمام الكتابة في موضوع آخر. نفس هذا الأمر نجده في سيرة فيثاغورس، حيث أنّه “قد استعمل نغمات معيّنة كعلاج ضدّ أهواء النفس…كما استخدم ألحاناً أخرى ضد الغضب والسّخط وكل الانحرافات الأخرى للنفس… واستخدم أيضاً الرقص، المترافق مع القيثارة وليس المزمار الذي اعتبر أنّه يؤدّي إلى السّفاهة…” هكذا إذن كان للموسيقى دورٌ محوريٌّ في نشاط الإنسان وحالاته الذّهنية، ولم تكن أبداً بالنسبة للفيلسوف مجرّد ترفيه أو نشاطاً جانبياً يحصل في أوقات الفراغ. أفلاطون أيضاً سار على منهج مشابه حين حرّم أنواعاً معيّنة من الموسيقى على طبقة المحاربين في جمهوريته الفاضلة. والتاريخ يطفح بأمثلةٍ تبيّن بما لا يدع مجالاً للشكّ كيف نظر المفكّرون إلى الدّور المحوري للموسيقى في النشاطات الأساسية للإنسان.”
قام بإعادة تدوين هذه على غنوص المحبة.