بقلم فادي أبو ديب
ليس الهدف من هذا المقال تخصيص المدينة المذكورة بسمة سلبية تميّزها لوحدها، وليس القصد أبداً التعريض بها. ولكن بعض التفاصيل التي تزوّدنا بها أحداث تلك المدينة فيما مضى مجرّد مؤشّر على حقيقة منتشرة في غير مكان. ما يلي إذن ليس إلّا مثالٌاً يوضّح سبب تحفظي على أية قراءة تاريخانية عقلانية محضة لمجتمع من المجتمعات العربية (مع استثناءات يمكن إهمالها). والقراءة التاريخانية العقلانية تعتقد أنّه يمكن فهم حاضر الجماعات البشرية الموجودة في المنطقة التي يُصطلَح على تسميتها بالمنطقة العربية باستخدام مفهوم التقدّم الهيغلي أو المفهوم المادّي الماركسيّ (الاشتراكية العلمية):
مدينة حماه، وهي المدينة السورية الوحيدة التي زارها السفير الأمريكي علناً في الشهر السابع من عام 2011، هي وحدها التي اشتُهِرت في طول البلاد وعرضها بهتافٍ يتّهم فيه رأس السلطة أو أحد أقربائه بأنّه عميل للأمريكان.
وبغض النظر عن صحّة الاتهام من عدمه فإنّ أيّ جماعة عاقلة (غير بدائيّة) كانت ستقوم في حالة كهذه بمحاولة حرف الانتباه عن كلّ مسألة العلاقة مع الأمريكان أو العمالة لهم، عن طريق طرح اتهام آخر مثلاً، طالما أن الموضوع كان ما يزال طازجاً. فأي تصرّف عقلانيّ بسيط من أي جماعة تركن إلى التخطيط – كان يمكن أن يختار ما يلي:
1- عدم استقبال السفير فيما لو كان ابتكار الهتاف سابقاً لزيارته.
2- عدم إطلاق الهتاف فيما لو كانت الزيارة هي السابقة.
3- استقبال السفير سرّاً.
4- استقبال السفير علناً ثم إطلاق حراك بشعارات تحرف الانتباه عن كل موضوع الأمريكان.
يجب أن نتذكّر دوماً أن نفرّق بين الشعب البسيط والبدائيّ.
من ناحية أخرى، نرى أنّ التسجيل الذي يصوّر سيارة السفير وحولها مجموعة من الشبّان تحميها وتهلّل لها وفي نفس الوقت تطلق هتافاً يفيد بأنّ هؤلاء لا يركعون إلّا لله زاخر بالمادّة الشيقة لأيّ باحث في علم النفس وتنمّ عن دلالة على بدائية مجتمع معيّن تمثّله هذه العينة من الأشخاص. البدائيّ لا يرى أيّ تناقض بين معتقده وسلوكه حتى مع عدم وجود فاصل زمنيّ بينهما.
إطلاق صفات مثل “خائن” أو “عميل” أو “ثوريّ” أو “حرّ” بالمعنى الكامل لهذه المفردات مضيعة كبيرة للوقت واستنزاف لا داعي له للّغة وعودة إلى سياق التفسيرات العقلانية لظواهر لا يجب أن تؤخذ بشكل عقلانيّ، بل نفسانيّ أولاً. الخائن والعميل أو الثوريّ والحرّ يمتلك حداً أدنى من الحذاقة والدّهاء أو الجرأة التي تحاول قدر الإمكان عدم مناقضة نفسها بشكل فجّ وصفيق. وهذا لا يتوفر نهائياً عند مجموعات بشرية كهذه.
لهذا أكرّر دائماً وأبداً أنّ الخطيئة في فهم سياق أيّ حراك يتم بين جماعات بدائية أو شبه بدائية (من الناحية النفسانية) يبدأ حين نحاول دراسة هذا السياق بشكل تاريخانيّ عقلانيّ محض. ربما نستطيع أن نطلق تعبير “البدائية المُفسَدة” على مجتمعات كهذه، فهي فقدت الإحساس البدائيّ الغريزي الذي يقاوم الدخيل وفي نفس الوقت انغمست في محاولات فاشلة للظهور بمظهر العاقل.
بداية أيّ دراسة لمجتمعات كهذه بحاجة لأطباء نفسانيين مختصين بالأساطير والاعتقادات الطوطمية وتركيب النفس وقواها وما شابه ذلك، تدرس وعي الشخص العموميّ والتركيب البدائيّ للنفس غير الفاحصة لذاتها ومفاهيم الإسقاط النفسي وغيرها. هذه هي مجموعة الاختصاصات الصحيحة التي يجب أن يُناط بها فهم مجتمعات كهذه بدايةً. البقية تأتي لاحقاً، إذا كان هنالك من داعٍ لها في هذه المرحلة من وجود المجموعة البشرية.
شعب بدائي .. ثورة ” أن كانت كذلك فعلاً ” بلا قائد .. حراك لم يفكر أساساً ب “ماذا بعد؟ ” .