تُعتَبَر نظرية الترضية عند أنسلم رئيس أساقفة كانتربري في العصور الوسطى من النظريات ذات التأثير الكبير على الفكر البروتستانتي اللاحق. ورغم أنّ نظرية البدلية العقابية هي السائدة في معظم الأوساط البروتستانتية المحافظة حتى الآن إلّا أنّه كثيراً ما يتم مزجها، وخصوصاً لأغراض الوعظ واستخدام المحاججة العقلية، بنظرية الترضية، وذلك من أجل شرح الفداء الذي قام به المسيح على الصليب، وبالأحرى شرح ضرورة التجسّد وضرورة الموت على الصليب موتاً كفّارياً.
تقوم هذه النظرية على منطق بسيط لشرح طبيعة الخطيئة التي ارتكبها الإنسان أولاً ولشرح ضرورة أن يصير المسيح إنساناً ثانياً. ويمكن القراءة عنها في إحدى ترجمات رسالة أنسلم بهذا الخصوص Cur Deus Homo أو “لماذا الله صار إنساناً”. ما يهمنا الآن هو الجزء الأول من هذه الحجة، وهو المتعلق بفهم طبيعة الخطيئة التي ارتكبها الإنسان، وتبيان ما فيها من مغالطة منطقية أولاً وما فيها من مخالفة للمنطق الذي طرحه المسيح عن الخطيئة والغفران ثانياً.
يعتمد أنسلم على المنطق التالي: الإنسان ارتكب خطيئة ضدّ الله أي ضدّ اللانهائي وبالتالي تكون خطيئته لا نهائية.
وأنسلم هنا يعتمد ما يشبه المنطق الرياضي من حيث الشكل، بمعنى أنّ قيمة الخطيئة تعتمد على رتبة المُخطأ إليه، وهذا طبيعيّ في زمنه وبديهياته القانونية والاجتماعية، فهو يطبّق على المفاهيم الميتافيزيقية مفهوماً قانونياً قد يشيع أو لا يشيع حتى عند البشر، لكي يصف ما يُفترض أن يكون حقيقة كونية لا تقبل الجدل. وبتطبيق نفس المنطق يجب علينا أن نفكّر في مجتمع يعاقب من يسرق سيارة جاره بطريقة تختلف عمّن يسرق سيارة وزير السياحة مثلاً، أو من يقتل ابنه بطريقة تختلف عمّن يقتل الملك. وهذا إن كان صحيحاً في المجتمعات الطبقية فهو غير صحيح أبداً في كثير من المجتمعات الحديثة. وإذا افترضنا- رغم صعوبة وجود معيار للحكم- أنّ القدماء كانوا على حقّ والمحدثين على خطأ، يبقى من الضروري شرح لماذا على النظام الإلهي أن يعتمد هذا النظام البشريّ. ولكن قد يقول قائل: النظام البشري الطبقيّ موروث عن العالم الإلهي. ولكن من قال؟ هل عندما قال المسيح أنّه لا غفران للمجدّف على الروح القدس بينما من يخطئ إلى الابن قابل للغفران، هل كان المسيح في قوله هذا يشير إلى تفاوت طبقيّ بينه وبين الروح القدس؟ هذا محال بنظر العقيدة المسيحية التي تؤمن بأنّ الابن والروح القدس من جوهر واحد ورتبة واحدة (هذا إذا لم يكن الابن هو الأعلى بحسب بعض الآراء اللاهوتية القديمة المرفوضة).
إذن هول الخطيئة لا يعتمد على ماهية المخطأ إليه لأنّ طبيعة العمل واحدة. ومن يتبع منطق أنسلم هذا إنّما يهجر الاعتقاد بحقيقة الماهية ويلجأ إلى مفاهيم نفعية مؤقتة تغيّر قيمة الأشياء بحسب النفع أو الضرر منها. فهل حبّ شخص من بني البشر أعظم من حبّ شخص آخر اعتماداً على رتبة المحبوب، إذا طبّقنا مفهوم أنسلم بشكل معكوس؟ هل من يحبّ فلاحاً فقيراً يكون حبّه أقلّ شأناً من الحبّ الموجّه إلى إنسان في منصب وزير النفط! وماذا عن المفهوم الحديث الذي يسلّم المناصب للبشر لفترة محددة فقط ثم ينزعها؟ هل تختلف الخطيئة حينها بحسب الأوقات؟ هل الخطيئة الموجهة إلى وزير الموارد المائية بعد تركه للمنصب بيوم تختلف عنها في حال ارتكابها ضد قبل ذلك بيوم؟ لماذا لا يكون الحبّ الموجّه للإنسان هو نفسه دليلاً على محبّة القدرة العظمى في هذا الكون وتبجيلاً لها. أليس يوحنا هو القائل إنّ من يدّعي محبّة الله وهو لا يحبّ قريبه فقد كذب؟ لا ريب في أنّ اليهود والمسيحيين حاولوا بشتّى الطرق تصوير محبّة القريب مجرّد مشتقّ من محبّة الله، وقد اعتبروا في معظم الأحيان وصية محبّة القريب مشتقة وثانوية بالمقارنة مع وصية محبّة الله من كلّ القلب والنفس والقدرة. ولكنّ كل هذه تفسيرات ناجمة عن عدم قدرة وعدم رغبة على تجاوز الهوّة الرهيبة بين الله والإنسان التي قطعها الله نفسه في المسيح المتجسّد.
وقد يقول قائل إنّ ضرب شرطيّ تُعتَبَر في القانون مقاومةً للدولة واعتداءً عليها وبالتالي يكون لها قيمة أكبر مما لو ضرب الشخص جاره. ولكن هذا أيضاً قانون وضعيّ وقد يتغيّر في ظرف ما. كما أنّ العقوبة هنا غالباً ما تكون للردع وإثارة الخوف في وجه المتمرّدين، وهذه أيضاً طريقة نفعية في التفكير، فلماذا سيلجأ الله إلى التهويل والترهيب؟ ما هي المنفعة من ذلك وهو قوّة الوجود المحرّكة والمُحيية؟
من ناحية أخرى فإنّ هذا التصوّر الأنسلمي يتصادم مع عبارات بسيطة يصادفها المرء في قصص يسوع المسيح في الأناجيل الأربعة؛ فالصلاة الربّانية مثلاً تورد عبارة “واغفر لنا خطايانا كما نغفر نحن للمخطئين إلينا”، ومثلها دعا المسيح تلاميذه إلى غفران زلّات إخوتهم تجاههم معتبراً هذا الغفران شرطاً لغفران الآب السماوي نفسه زلّاتهم لهم. وهو هنا يساوي بطريقة غير مباشرة بين خطايا الناس تجاه بعضها وخطاياها تجاه الله، لا بل كأنّ الخطايا تجاه الإخوة ما هي إلّا الخطايا تجاه الله. وبالعكس، ألم يقل المسيح نفسه إنّ من يزور مريضاً أو يطعم جائعاً أو يسقي عطشانَ إنّما فعل ذلك للربّ؟ ألم يقل إنّ من لا يفعل هذ الأمور فكأنّما امتنع عن فعلها له هو، أي للمسيح ابن الله نفسه؟ (متى 25)
ومن ثمّ ما معنى أنّ الخلاص يأتي من خلال الولادة من الروح الذي لا يعرف أحد من أين ومتى يهبّ وإلى أين يمضي (يوحنا 3)؟ كيف كان يفترض بنيقوديموس الذي وعظه المسيح ليلاً أن يفهم أنّ هذه الولادة الثانية تحمل غفراناً لا نهائياً ضدّ خطيئة لا نهائية والمسيح لم يمت بعد عن هذه الخطيئة اللانهائية؟ ألعلّنا نتكلّم عن مفهوم لا زمنيّ؟ ربّما، ولكن لماذا اللجوء إلى هذا المفهوم في وجه عبارة المسيح التي لا تتطرّق إلى مثل هذا الأمر؟
لقد أصرّ المسيح على أنّ وصية محبّة القريب مماثلة لوصية محبة الله (متى 22 ومرقس 12) ورغم أنّ وصية محبة الله دُعيت أولى وعظمى إلّا أنّ الثانية لم تُدعَ ثانية وصغرى بل “مماثلة” أو شبيهة. وإذا كانت بعض التفسيرات تحاول أن تقول بأنّ الوصيتين متماثلتان في الأهمية وليس في المرتبة، فهذا لعب على الألفاظ من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنّ ما يهمّنا هنا هو بالفعل الأهمية لا النوع، فإذا كانت محبة الله من غير نوع محبة القريب ولكنها مساوية لها في الأهمية فلتكن كذلك! وعلى النسق نفسه، فإنّ الخطيئة تجاه الله تختلف من حيث الشكل ربما أو المضمون عن الخطيئة تجاه القريب ولكن لا يوجد مسوّغ إلى اعتبار إحداهما لا نهائية والأخرى نهائية. إنّ الخطيئة اللانهائية الوحيدة، إذا رغبنا في هذه التسمية، بحسب المسيح نفسه هي خطيئة التجديف على الروح القدس، ولكن رغم ذلك، وكما ذكرنا أعلاه، فهذا الفهم يختلف عن المنطق الذي استعمله أنسلم، لأنّ المسيح لم يربطها بماهية المخطأ إليه بوصفه لا نهائياً، فالابن أيضاً لا نهائيّ ومع ذلك الخطيئة تجاهه قابلة للغفران. إذن علينا أن نفهم الخطيئة تجاه الروح القدس بطريقة أخرى. وهنا أقتبس من مقالة “النكران السوري الذي لا يُغتفر” ما يلي:
“في البداية يجب توضيح ماهية الخطيئة؛ فهي ليست ممارسة ما؛ هي ليست زلّة في السلوك أو تعدٍّ على ناموس [فحسب]؛ إنّها اعوجاج جوهري في الشخصية والفِكر والتوجّه والهدف النهائي؛ هي، إن شئنا، مرضٌ موجود في الإنسان بشكل جوهريّ. وهذا المرض، كأيّ مرضٍ في الجسد، وكأيّ ظاهرة معوجّة في المجتمع، يحتاج إلى علاج؛ ولكنّه قبل علاجه يحتاج إلى شيءٍ غاية في الأهمّيّة، وهو الاعتراف بوجوده وعدم نكرانه؛ فبدون الاعتراف بالمرض لا يمكن للطبيب أن يعالج مريضه، وبدون ترك النُّكران جانباً لا يمكن لأيّ نظامٍ مجتمعيّ أو سياسيّ أن يباشر في إصلاح أيّ انحرافٍ أو اعوجاج، لإزالته أو لتخفيفه.”
وإن كان لا يمكن الزعم أبداً أنّ المقطع أعلاه تفسير جامع مانع لمعنى التجديف على الروح القدس، إلّا أنّ الفكرة الرئيسية أنّ هذه الخطيئة التي لا تغتفر لا تتعلّق بالضرورة بالجوهر اللانهائي للروح القدس بل بطبيعة الاعوجاج، لأنّ الخطيئة ضدّ لا نهائيّ آخر، وهو اللوغوس، يبدو أمراً قابلاً للغفران بحسب تعبير المسيح.
وهكذا فإنّ منطق أنسلم لا يمكن أن يقوم على أساس متين. وهذا ما فهمه اللاهوتيون الغربيّون اللاحقون، ومن أهمهم جون كالفن، فحاولوا تعديل نظريته من دون نجاح كبير في أغلب الأحيان.