بقلم فادي أبو ديب
(1)
إسرائيل هي فاتيكان الإمبراطورية الرأسمالية المعولمة ودرّة تاجها، وكلّ من يريد أن يدخل فردوس السوق العالمية (وهي للمفارقة جهنّم الطبقات ما تحت النخبوية، بدرجات تتفاوت) عليه أن يبصم لإسرائيل هذه بأصابعه العشرة. دول الخليج وغيرها تعرف هذه الحقيقة وكلّ تجّار العالم يعرفون ذلك ولذلك يتراكضون لنيل الرضا. ولهذا أيضاً من يقول إن إسرائيل حققت تقدّماً أو “استطاعت” كذا في فترة قصيرة هو ساذج من طراز رفيع لأنّ مقولته هذه تتجاهل أنّ إسرائيل هذه هي مستودع وثكنة تجارب ضخمة “يًصنَع” فيها في المقام الأول ثم “تصنع” هي، وهي من أهل البيت الغربي وأفرادها يتجولون بحرية في أفضل معاهد العالم ولا يوجد أيّ محظور عليهم في حال عادوا إلى بلادهم، فعودتهم إلى بلادهم ليست عودة كما نفهمها نحن الغرب ودول العالم الآخر، بل مجرد انتقال من مكتب إلى آخر في بناء واحد.
هذا يعني أنّ من يريد أن يقاتل إسرائيل من الدول يجب عليه أن ينذر الفقر والتخلّي عن متاع العالم الحديث، وهذا يعني الجوع حرفياً أو رمزياً. ولأن لا دولة تستطيع ذلك لأنّ مفهوم الدولة يقوم على الدخول في العالم والتعاون مع دوله، كانت مواجهة إسرائيل صعبة جداً وغير ممكنة بالوسائل التقليدية المعروفة في عالم بنيته تشبه عالم اليوم.
(2)
سنوات من المراقبة والإصغاء والنقاش لم تجعلني إلا متأكداً مما سأقول، ويجب أن أقوله مهما كان الثمن:
كلّ الدلائل والمتابعات التي لديّ تؤكّد أنّ الأغلبية الساحقة من الإنجيليين الأمريكيين (وهنا أقصد الفرع المحافظ والمحافظ جداً من الحركة البروتستانتية الأمريكية، باستثناء بعض التيارات الأصولية الريفية الصغيرة وهي مناهضة جداً للصهيونية) تقدّم شعورها القومي/الإمبراطوري الأمريكي على التعليم المسيحي من جهة وحتى على تضرّعات وشروحات “إخوتهم” المسيحيين المشرقيين الذين يحاولون شرح الأمور بتعقيداتها لهم، مفضّلين الاستماع إلى أجهزة مخابراتهم القذرة على الاستماع لمن يدّعون أخوّته ومستعدّين أن يصدّقوا “تديّن” ترامب المزيف على تقوى من أفنى حياته في خدمة الإنجيل، ومفضّلين إسرائيل على دمائنا ودماء أهالينا فيقدّمون لها كل ما يستطيعون، غير مستعدّين أن يعترفوا بأنها أقدمت أو تقدم على عمل غير إنساني (أي أنّهم لا يقومون حتى بدور الأب الذي يؤدّب طفله) ولا يقدّمون لنا إلا الصلوات السخيفة ونحن أو أهلنا أو أصدقاؤنا تحت الصواريخ، ونحن لا نريد منهم إلا أن يكونوا مسيحيين يفعلون ما بوسعهم لمنع أي حرب.
لم أجدهم يوماً إلا في مقدمة الداعين إلى الحرب وفي مقدمة المناصرين لها والذاهبين إليها. يرسلون ويغدقون المساعدات على المهجّرين وذوي القتلى ولكنهم لا يقومون بادنى جهد لمطالبة حكوماتهم (وهم عمادها على كل حال) بالتوقف عن إثارة الفوضى وتكوين الإرهاب ودعمه. ميولهم الإمبراطورية القومية كميول مسيحيي روما ثم بيزنطة في وقت ما، وهي ميول مسيحية المملكة والنظام العالمي، هي صلب عقيدتهم الفعلية العملية أما باقي العقائد اللاهوتية فليست سوى شكل بلا نكهة ولا طعم ولا حتى ضرورة إلا لاكتساب اسم مسيحيّ.
(3)
الجماعات المسيحية الكبرى (ولا أقول المسيحيين عموماً لأن هؤلاء متنوعون جداً) في الغرب ثلاثة أنواع:
أولاً، الفرع الإسرائيلي أو شبه الإسرائيلي، وهؤلاء قادرون فعلاً على العمل، ولكن حتى دخولهم إلى الحمام يرتبط بنظرتهم لاستفادة إسرائيل من أي تحرّك. يحاولون دعم مسيحيي الشرق ببعض الأشكال ولكن من دون إغفال إسرائيل ولو للحظة. يستحيل أن يستعملوا نفوذهم السياسي لردّ حرب ما عن الشرق الأوسط. يفضّلون شنّ الحروب أولاً ثم التصدّق على المحتضرين.
ثانياً، الفرع الغربي التقليدي من غير الكاثوليك، ومعظمه بالكاد يتذكر وجود مسيحيين في الشرق، وهو بالكاد قادر على دفع ضرائبه ودعم وجوده في الغرب أصلاً.
ثالثاً، الفاتيكان لا أستطيع الحديث بشأنه لأنه إمبراطورية ضخمة، ولكن ليس من مصلحته خروج الشرق من تحت القبضة الفولاذية العسكرية للغرب، وهو أيضاً يفضل التصدّق على المحتضرين.
هناك جماعات أخرى كثيرة متفرقة، مسالمة فعلاً، ولكن ليس لها أي ظهور أو نشاط سياسي دولي أو أية قدرة فعلية على ذلك.
(4)
قصة ابراهيم التوراتية، سواء أخذناها تاريخياً أم لا، هي من أكثر قصص الحجّ رمزية للنفس البشرية خلال مسيرتها في هذا العالم. لا داعي لأن نقول إنها ألهمت الكثيرين.
هذه الرواية تحوّلت في القرن العشرين، بسبب بعض المتخلّفين ذهنياً من سياسيين ولاهوتيين وكتّاب ورجال أعمال، إلى واحد من أسوأ الكوابيس التي عرفها العصر الحديث: إسرائيل. ذلك الكيان السياسي الذي لا يؤمن أصلا معظم سكانه لا بابراهيم ولا برمزية قصته.
(5)
أستطيع أن أتفهّم جيداً النظرة التأويلية المسيحية التي تربط القدس باليهود (من وجهة نظر القراءة الأكاديمية)، فقد درستها لسنوات وأظن أنني أعرف معظم التفاصيل المجهرية للموضوع وكتبت عنه (وتركت الاهتمام بالأمر برمّته منذ سنوات). وبصراحة هنالك بعض الصعوبة في عدم ربطهما إلّا في حال استعمال طرق قراءة أخرى تفترض مجموعة من أساسات القراءة (غير الأدبية، وإنّما الميتافيزيقية) التي قد لا يوافق عليها الجميع.
القراءة “الأدبية” للنصّ اليهودي-المسيحي، وهنا أقصد الاعتماد الأكبر على التركيب اللغوي الموجود أمامنا وربط المفردات ببعضها وربط العبارات المتشابهة ببعضها (هذه تُسمّى القراءة الحرفيّة- وهذه قراءة متأثرة بشكل كبير جداً بالقراءات الحداثية العلموية للنصوص)، هذه القراءة ستوصل غالباً إلى ربط القدس باليهود قولاً واحداً.
ما لا أستطيع أن أتفهّمه إطلاقاً هو الرابط بين هذا الفهم اللاهوتي وبين دعم الدولة الفاشية العلمانودينية التي تُسمّى “إسرائيل” من جهة، وهذا الشعور غير المبرّر بوجوب تبرير تصرّفات إسرائيل والدّفاع عنها في كلّ ما تفعل وكأنّه واجب مقدّس.
(6)
المسيحية في أمريكا نوعان:
قسم يكاد لا يكترث للشرق الأوسط، وقسم عقله في الشرق الأوسط، وفي إسرائيل خصوصاً. كل كتاباتهم تدل بوضوح أنهم لا يكترثون إلا لإسرائيل، مع إرفاقهم لعبارات فارغة تطلب “الصلاة” للدول العربية لأن “الرب يحبهم”. وهو يحبهم فقط عندما يكونون أصدقاء لإسرائيلهم.
يا إخوان، المؤسسات الدينية الضخمة، وخاصة في أمريكا الإنجيلية، هي في مشاريع اقتصادية ضخمة، ولها ارتباطات بالغة التعقيد في أروقة السياسة وسوق الأسهم. هؤلاء لا يمكنهم، حتى لو أرادوا، الدفاع عن أي مسكين في هذا العالم. هذا أمر منتهٍ. حسبهم أن يرسلوا البطانيات والحليب إلى المشردين الذين فتكت بهم قوانين وظروف أنشأها سياسيون مدعومون من هذه المؤسسات.
بطريقة أخرى، هم جزء مؤسس لبنية الطلم في العالم، وليسوا واقعين تحت تأثير قوة الظلم.
لن أدعي أني فهمت كل شيء .. ولكن يمكن القول أن هذا النص فيه شيء من أفكاري المتواضعة والقليلة في الدين والسياسة .. قد أكون لم أفهم كل شيء ولكني “أحسه” ..
[…] أحب بالفعل تأملات العزيز فادي أبو ديب: خواطر حول إسرائيل الحديثة […]
شكراً جزيلاً عزيزي يونس. مدونتك ملفتة والآن أتابعها. فيها الكثير مما يود المرء أن يقرأ.