بقلم فادي أبو ديب
إنّ عدم اعتقادي بإمكانية إحداث تغيير “حقيقي” واسع وشامل في المناطق التي لم تبن دولة سابقاً يكمن في اعتقادي بأنّ “الفورم” الأصلي المأمول سقط. أقصد فورم الدولة.
الدولة نموذج ينتمي إلى حقبة ماضية، وهي باقية في مناطق عديدة لأنها بُنيت في ذلك الزمن على أسس قوية وبقيت حتى الآن، أحياناً جيدة وأحياناً مشوّهة.
وهي مثل المعابد، موجودة لأنها قامت على منظومات دينية نشأت في زمن ما، فرسّخت قاعدتها، وهي الآن باقية لأسباب عديدة، أهمها أنها أصبحت تقليداً يتبعه الناس ثقافياً وليس دينياً في الغالب. ولكن أن تحاول اليوم إعادة خلق منظومة من منظومات ذلك الزمن وبنفس الطريقة فهذا عبث ومهزلة.
الدولة هي من منظومات زمن آخر. واحدة من بواقي السرديات الكبرى والإيمان بالمطلقات والحقيقة الواحدة.
“اللي ضرب ضرب واللي هرب هرب”. أحترم إرادات الناس ولكن الأمر يتجاوز الإرادة حالياً.
إنّ “انفلاش” وانفلات الدول والسّلطات المركزية واقع حاصل بفعل وصول العلاقات في العالم إلى درجة مهولة من التشابك والاعتماد المتبادل أكثر من أيّ وقت مضى. والمنظومات الجاهزة لاستلام السلطة في أيّ مكان هي منظومات بالضرورة غير محلّية بل خليطة، والأشخاص العاملون في هذه المنظومات والذين يقودونها أو قادرون بالفعل على قيادتها ضمن تيّار العالم الرّاهن مدرّبون أصلاً خارج أوطانهم ليعملوا وفق منظومات تناسب التيّار العالمي، وهم ويتلقّون دعماً من هذه الجهة أو تلك أو من جهات عديدة. وهؤلاء على افتراض حسن نيّتهم وإخلاصهم لن يستطيعوا أن يقوموا بما هم غير مدرّبين عليه إلا في حالات نادرة جداً يمكن إهمال وجودها لفرط ندرتها. وإذا وُجِد أشخاص ذوو ميول محلّية قويّة فهم إمّا غير قادرين على الوصول على السلطة أو قادرون على ذلك ولكن المصالح العالمية سوف تقاطعهم، أو هم قادرون على الوصول إلى السلطة ولكنهم غير مؤهّلين لقيادة البلاد في عصر كهذا، لأنّهم ينتمون فكرياً وسلوكياً إلى عصر سابق.
صحيحٌ أنّه في القرن الماضي كان العديد من أشهر قيادات العالم الثالث الوطنية متعلّمين ومدرّبين خارج بلدانهم الأصلية، ولكن في ذلك الزمن كان ما يزال في العالم العديد من المنظومات الفكرية التي تؤمن بالدولة أو على الأقل بحدّ ادنى من شروط الثبات و”الفورم” الذي لا يُمَسّ وكان يمكن التعاون معها، أمّا في عالم اليوم فالسوق المفتوح بات هو الربّ الأوحد لكل المنظومات الفاعلة في العالم، ودعم أيّ بناء وطني ثابت مرهون فقط بمصالح سوقية. بالمختصر، لم يعد حكّام العالم من التجّار وأصحاب المال والشركات يؤمنون بمطلقية وجود الدولة على النمط الحديث، لأنّ الدولة نفسها بالنسبة للتفكير المعاصر سردية كبرى لا حاجة لها إلّا ضمن شروط. ولكن الدولة من حيث المبدأ مفهوم عقليّ فلسفيّ لا بل دينيّ أسطوريّ في العالم الغابر، أما الشركة فمفهوم وضعيّ قابل للبيع والشراء والتحويل. لهذا أيضاً أصبحنا نرى تجّارً ورجال أعمال وفنّانون وأقزاماً قكرياً وسياسياً يصلون إلى مراكز القيادة. هذا لأنّ القيادة السياسية اليوم تغلب عليها الشكلية.
الانتفاضات الأخيرة في عدة بلدان دليل على أنّ القيادات الواصلة إلى سدّة الحكم ليست محلّية تماماً بل هي، بشكلٍ أو بآخر، تمثّل روح العصر الذي تميل فيه الأجسام السياسية والمالية والتكنولوجية والقيمية إلى الاختلاط والتضارب والعمل على البضاعات المؤقّتة وليس على الأساسات الصلبة الدائمة. أوكرانيا هي مثال واضح على ذلك في انتفاضتيها الملونتين اللتين قادهما عملاء لجهات خارجية، وجورجيا مثال آخر، وكذلك الانتفاضات العسكرية العنيفة في ليبيا وسوريا، ومثلها السلطة الحاكمة في العراق الذي لم يسقط نظامه بفعل انتفاضة بل بفعل حرب خارجية مباشرة. نفس الأمر ينطبق على “الانتفاضة” السياسية والثقافية والعسكرية الكردية في سوريا، رغم عدم إنكار وجود متطلّبات طارئة وملحّة ومحقّة عند كثير من هذه الحركات. ونفس الأمر سيكون حتماً في لبنان بغضّ النظر عن بدايات الأمر والاندفاع العفوي المؤثّر للناس إلى الشوارع.
الدولة الحديثة بمفهومها المتداول هي الدولة القومية التي نشأت في أوروبا أو بعض تعديلاتها التي اتحذت الشكل المتعدد الثقافات، والتي إن كانت اليوم تقوم على الديمقراطية، إلّا أنّها لم تُبنَ بدايةً إلّا على الهوية الواضحة الملتفة حول مجموعة قيم أو منظومة وأحياناً على مجموعة أشخاص مؤسسين يمثّلون ويتمثّلون في نفس الوقت روح الأمة وتوجهاتها الرئيسية. والديمقراطية على كلّ حال تحوّل يطرأ على جسم ناضج وليست أساس بناء أوّليّ. وهذه الروحانية (روحانية بناء الأمة المستقلّة ذات الأساس الدائم)، مهما كان رأينا بها اليوم، لا يمكن أن تتوفّر في العالم. وإذا توفّرت فهي مستهدفة منذ نشأتها بأسلحة لا قِبَل لها بمواجهتها لأنّها ببساطة لا تعرف هذه الأسلحة وقوّتها ومدى تأثيرها، وهي أسلحة ذات مراحل تكاد لا تُحصى ولا تنتهي. فلا يمكن في يومنا هذا لأيّ دولة مهما عظم شأنها أن تتحدّى العالم، ناهيك عن مجتمعات ناشئة وحالتها تشبه حالة العماء الأوّلي الذي لم يتشكّل في صورة معيّنة بعد.
ولذلك، فمن لديه شبه دولة أو شبه وطن اليوم فليعمل لكي يرمّمه أو يحسّنه أو يعدّله أو ليبعه كشركة مساهمة مغفلة إلى أقرب مشترٍ! ففي الظروف الحالية لا مكان للبناء من الصّفر وإرادة التغيير الجذري لن تأتي إلا بالويلات والخراب والفوضى والعبودية المطلقة والكلية للقوى الكبرى الجاهزة للانقضاض.
[…] مقالة سابقة لي بعنوان “لماذا تسحيل الآن إعادة البناء عن طريق الثورة؟” ورد ما يلي: إنّ “انفلاش” وانفلات الدول والسّلطات […]
[…] مقالة سابقة لي بعنوان “لماذا تسحيل الآن إعادة البناء عن طريق الثورة؟” ورد ما يلي: إنّ “انفلاش” وانفلات الدول والسّلطات […]