العربيّ وفعل القراءة غير المُنجَز


بقلم فادي أبو ديب

 

يؤشّر أدونيس في بعض ما كتب (*) إلى ظاهرة غريبة فعلاً، وهي أنّه في الوسط العامّي وحتى الثقافي العربي هنالك ميل إلى ما يمكن أن نسمّيه الآن ثقافة “المكتوب مبين من عنوانو”. وهو يبدي استغرابه وعدم قدرته على الشرح الكامل لهذه الظاهرة. وفي أحد الأمثلة التي يتناولها يشير كيف أنّ أحد دراساته المطوّلة التي أدان فيها السلطات العربية القديمة إلى جانب تناوله بالدراسة والمديح والاحتفاء حوالي 60 شخصية عربية مبدعة في فترة زمنية قصيرة من بداية التاريح الهجري- يشير إلى كيفية استقبال هذه الدراسة بوابل من الشجب والإدانة واتهامه بأنّه لا يرى في التاريخ العربي إلا الدم والجماجم. وهو يتساءل: كيف لم ير هؤلاء القرّاء احتفاءه بحوالي 60 شخصية من الشعراء والمفكرين والأئمة ممن ينتمون إلى كافة المشارب الثقافية في ذلك الزمن؟
هذا سؤال حقيقي وليس بلاغياً. يعني “بالمشرمحي”: أين كانت عيونهم وعقولهم وهم يقلّبون صفحات الكتاب واحدة تلو الأخرى. ونحن هنا لا نتكلم عن عامة الشعب التي في أغلبيتها الساحقة سمعت عن الكاتب ولم تقرأ له لأنّه “صعب”، بل عن شعراء ومفكرين مرموقين لهم وزن وعلى قدر من الإبداع والحسّ الجمالي.
يستنتج أدونيس أنّه ربما يكون التعليل لهذه الظاهرة هي ما يلي، وأكتبها بلغتي وتأويلي:
حتى المثقفين العرب، يمن فيهم الذين ذاقوا ويل القمع والسلطة، ناهيك طبعاً عن عامة الشعبـ ما زالوا يميلون بشكل لاواعٍ إلى ربط الإبداع بالسّلطة والنظام القائم، ولذلك فهم يتصوّرون تلقائياً أنّ أيّة إدانة للسلطة هي إدانة للتاريخ نفسه وللإبداع في الأمّة. وبالنسبة إليهم فإنّ شجب السلطة العربية في زمن ما هو إذن إدانة للتاريخ العربي نفسه والعكس بالعكس، رغم أنّ ما يحفظ تاريخ أمّة ما في السجلّات ويوفّر لها السمعة الطيبة بين الأمم ليس هؤلاء الحكّام عادة بل المبدعون أنفسهم والحكّام الذين رعوا هؤلاء المبدعين، وليس مجرّد وجود الحاكم ومؤسساته.
وهكذا فإنّ حكم أدونيس الدقيق على قراءة العرب بالعموم للشعر والقصيدة ينسحب برأيي على كلّ الأنواع الأدبية الأخرى فأقول:
العربي بالعموم- لا داعي لنذكّر بوجود الاستثناءات دائماً وأبداً- لا يقرأ النصّ بل يفتّشه ويبحث فيه عن فكرة أو تصوّر أو مفهوم يرغب بوجوده. العربي يقرأ في العنوان كلّ ما يريد ثم يقلّب الصفحات بحثاً عن انطباعه الأول. هذا ليس خيالاً بل واقع عايشناه ونعايشه، ورأيناه في الساحات العامة وفي القاعات الدراسية.

ومن نافل القول أن نذكّر بأنّ هذه الملاحظة لا تعني أنّ العرب وحدهم من نشهد عندهم مثل هذه الظاهرة؛ فربما يصحّ أن نقول إنّ الإنسان يرتاح ويشعر بالأمان في التفكير النمطي والرؤية التقليدية والشعور بأنّ هنالك معاني مطلقة لا تتغير يمكن الركون إليها، ولهذا نشاهد مثل هذ الظواهر في كل مكان، وخاصة في البيئات التقليدية أو أوساط الأحزاب والفرق والمذاهب التي تتميّز بالتعصب والإقصاء في أيّ مكان.  ولكن يصحّ القول أيضاً أنّ هذه الظواهر لم تلعب منذ مدة طويلة نسبياً الدور الذي تلعبه في العالم العربي من حيث قدرتها على تعطيل التغيير المجتمعي والانطلاق نحو اكتشاف الذات أولاً واكتشاف العالم وتناوُل جميع الأسئلة التي تراود النفس البشرية من دون خوف من سيف أو سجن هنا أو هناك أو نبذ وعزل وطرد في أحيانٍ وأماكن كثيرة.

(*) راجع أدونيس، موسيقى الحوت الأزرق، ط2، دار الآداب (2011)،  ص 170- 171.

 

 

الإعلان

One comment

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.