ما هي السِّلمية؟ ما هو العُنف؟


بقلم فادي أبو ديب

قطع-شوارع-في-لبنان

عندما ينحطّ مفهوم المعنى وتصير النسبوية إيديولوجية مُسبقة تبشّر بالفراغ (وليس مجرّد استنتاج يصل إليه الباحث في مجال بحثه) تُفلس المفردات في نظر العامّة كحدث لاحق أو سابقٍ لتخلخل المفاهيم وانهيارها- ليس انهياراً لبناء صرح مكانها وإنّما لسرقة حجارتها ورميها في بحر العماء.

الثورات المعاصرة، الملوّنة منها والمتحوّلة إلى حروبٍ شاملة، تستعمل المفردات أيضاً بطرق مخاتلة وملتوية ومن دون دلالة فعلية، في كثير من الأحيان، إلا الدلالة السطحية التي لا تصمد أمام الفحص العقليّ. والأهم أنّها لا تصمد أمام الواقع الملموس نفسه.  ومن اهم هذه المفردات الكلمتان المترافقتان “السِّلمية” و”العنف”، واللتان تشكّلان أساساً في ثورات اليوم وانتفاضاته.  فما هي السِّلمية؟

تُستعمل هذه الكلمة عادةً كمرادفٍ لعبارة “غير مسلَّحة”؛ وبحسب هذه الرؤية السّطحية فإنّ كلّ جماعة تعترض من دون سلاح قاتل هي بالضرورة “سِلميّة”، أي “غير عنيفة”.  وهذا التوصيف يشبه إلى حدّ كبير التوصيف الذي عادة ما يستخدمه أتباع بعض الأحزاب والمذاهب والجماعات الدينية عندما يدّعون أنّ حزبهم أو مذهبهم أو جماعتهم الدينية خالية من أيّ عنف “أصيلٍ فيها” لمجرّد أن نصوصها ودساتيرها الداخلية  تخلو من مفردات معينة تشير دلالتها المعجمية إلى فعل عنيف أو قاتل.  هذه الحالة تشبه أيضاً علاقة بين شخصين يمارس أحدهما العنف الجسدي، حيث يتّفق الجميع هنا على وصف هذا الفعل بالعنيف، بينما يمارس الآخر أنواعاً أخرى من العنف قد تشمل السخرية المستمرّة، تشويه الصورة سراً أو علناً، الصدّ المستمرّ وغير المبرَّر بوضوح، التجاهل المقصود، الابتزاز العاطفي الصامت أو المُعلن،…إلخ، ومع ذلم يتجاهل البعض مخطئين التأثير الخطير الذي يمكن لهذا النوع الآخر من العنف أن يفعله على المدى القصير والطويل.

لا شكّ أنّ رفض تسمية الحالات السابقة بأنّها “عنف”ليس إلا سطحية ونظرة مجرّدة خالية من العناصر الواقعية؛ فالعنف لا ينطلّب حصرياً استخدام مفردات تشير دلالتها المعجمية إلى القتل أو الضرب أو ما شابه.  فالعنف يمكن أن يكون نتيجة طبيعية لمنهجية معيّنة.  فعلى سبيل المثال يمكن أن نتوقّع- والتاريخ يشهد- أن أيّ نوع من التفسير الذي يعتبره أصحابه مطلقاً ولا مساومة فيه سينتهي به الأمر حتماً إلى نوع معيّن من العنف، يبدأ بالنظرة إلى الآخر كضالّ إذا كان صامتاً وكهرطوفيّ إذا كان فاعلاً ذا رأي، ثم يتدرّج في مراتب الرفض والنبذ، ثم الشتيمة بمستوياتها المختلفة وصولاً إلى الإقصاء والطرد والتجاهل وانتهاءً بالقتل تحت ذرائع شتّى.  وبالطبع فإنّ هذه المراحل المتدرّجة يمكن أن تحصل وفق ترتيب مختلف بحسب الظرف التاريخيّ والحاجة التي تدعو الأتباع إلى ممارسة هذا الفعل أو ذاك.  وهكذا يمكن أيضاً لأتباع نظرية معيّنة عن الجمال والحبّ (!)  أن يمارسوا أنواعاً مختلفة من العنف ضد مخالفيهم، بعضها لا يقلّ شأناً عن قتل إنسان، كالسخرية المستمرّةوتشويه صورة وتاريخ فرد أو جماعة أو حرمان/l من العمل ومحاربته/م بلقمة العيش، هذا إذا لم يصل إلى القتل الفعليّ في ظرف معيّن قد لا يخطر على بالنا.

وبالعودة إلى موضوع سلميّة التظاهرات، فإنّ إهانة رمز معيّن عند طائفة من الناس يشكّل من دون شكّ فعلاً عنيفاً، لأنّه هنا يخترق السِّلم الأهلي في مكان ما (ولا علاقة للأمر بأحقية هذا الرمز لهذه المرتبة أم لا، فالتعلّق بالرموز عملية في معظمها لاواعية).  وإذا كانت هذه الإهانة ضرورية من أجل إنقاذ الناس من وضع معيّن كما قد يزعم البعض، فما يزال التوصيف “السِّلميّ” للفعل غير مناسب، تماماً كما أنّ القتل يبقى عنفاً بعض النظر عن دافعه.  خطورة هذا النوع من العنف تكمن في أنّ مرتكبها لا يعلم بأنّه يمارس العنف الذي قد يصل بسرعة إلى حدود الحرب، وخصوصاً إذا كانت الممارسة علنية ومفتوحة على كافة الاحتمالات.  العنف أيضاً قد يشمل خلخلة البيئة الاجتماعية بشكل مباغت وغير مفهوم، وكذلك في اعتراض الروتين اليومي للناس بشكل مفاجئ يولّد شعوراً بالخوف أو القلق أو عدم الأمان عندهم وبطريقة غير متّفق عليها مسبقاً بين جميع الموجودين في بيئة ما.  وهذا التوصيف ليس مبالغةً، فجميعنا تقريباً نصف خطاباً ما بأنّه عنيف حتى لو لم يكن يدعو إلى الاعتداء على الناس جسدياً.

وهكذا فممارسة العنف سلّم طويل يبدأ من اللغة وينتقل إلى أرض الواقع بأشكال مختلفة ومستويات متفاوتة، تبدأ بقطع الطرقات وتنتهي بالقتل، وهذه نقلة سهلة-بالمناسبة- ولا تحتاج إلى الكثير من المجرمين المدرّبين لفعلها، بل بعض الظروف المؤاتية، كوجود فرد أو مجموعة من الأفراد الرافضين لهذه الممارسة.  ولدينا من الأمثلة التاريخية الحقيقية ما يوفّر علينا حتى اختيار أحدها لبرهنة ادّعائنا.  عدم توفّر السّلاح في يد متظاهر أو منتفض أو ثائر لا يعني بالضرورة “سِلميّة” هذا الشخص.  فالإنسان مارس الجريمة قبل اختراع الأدوات الحادة والميكانيكية وما بعدها، كما أن كافّة القوانين المعروفة اليوم والبارحة تعتبر المحرّض على الجريمة لفظياً شريكاً رسمياً في الجريمة وينال عقوبة تماثل تقريباً المنفّذ الفعلي “المسلّح” للجريمة.  وهذا عامل إضافيّ يجعلنا نرفض الاندفاع الفوري لأشخاص أو لدول لوصف تحرك جماهيريّ كبير بأنّه “سِلميّ” قبل فحص هذا التحرّك ودرس أفعاله وشعاراته ولغته المستخدمة، فالسيمياء لغة تدرس منذ أمد طويل في الأدب وعوالم النصوص، ولا ريب في أنّ الحياة وأحداثها نصوص أيضاً ينبغي أن تنطبق عليها دراسات مماثلة.

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.