لماذا يستحيل البدء ببناء دولة عن طريق ثورة معاصرة؟


بقلم فادي أبو ديب

ثورة

لا شكّ في أنّ كثيراً من المطالب في الاحتجاجات التي تشهدها بلدان عدّة في الشرق الأوسط، وهي لبنان والعراق وإيران، محقّة. لا بل إنّ وصفها بالمحقّة ربما يبدو نوعاً من المسايرة اللفظية، لفرط سوء الأوضاع المعيشية والخدمية والسياسية والبيئية التي تعيشها هذه البلدان بنسب متفاوتة. والحقيقة إنّ معظم الطبقة السياسية، وخاصة في لبنان والعراق (لا تتوفر لديّ معلومات واضحة عن إيران)، وصلت إلى درجة من الاستخفاف بالناس وبأساسيات معيشتهم حداً لا يمكن السكوت عنه. وخاصة أن معظم أفراد هذه الطبقة إمّا مدعومون من جهات أجنبية أو يعملون لديها لتنفيذ أجنداتها.

وهكذا يعتقد عدد كبير من المتظاهرين والمنتفضين على هذه السلطات أنّه قد حان الوقت لإزاحة الطبقة السياسية الحاكمة للإتيان بطبقة أخرى فاعلة ونظيفة الكفّ، أو تعمل على الأقل على تحسين أوضاعهم على مختلف الصُّعُد. ومع ذلك لا يبدو أنّ المنتفضين، وخصوصاً في لبنان، يملكون أدنى فكرة عن كيفية الإتيان بطبقة بديلة؛ فبعض المنتفضين لا يريد طبقة سياسية بديلة بل يؤثر جزءاً من الطبقة الحالية التي يرغب لها أن تتمكّن أكثر من مفاصل السلطة؛ والبعض الآخر لا يريد طبقة سياسية أبداً بل طبقة من المختصين التقنيين (حكومة تكنوقراط) لكي تحكم البلاد، وكأنّ هؤلاء المختصّين سيأتون على مركبات السماء ويكونون على حياد كامل، فيكون كلّ عملهم منحصر في توفير الخدمات للمواطنين، وهذه من دون شكّ فكرة خيالية لا وجود لها على كوكبنا الأزرق. وهناك قسم من المتظاهرين، لا ينفصل بالضرورة عن الفئتين المذكورتين، غارقٌ في رومانسية حالمة تعتقد بأنّ الثورة في حد ذاتها فضيلة ينبغي اعتناقها، وأنّ هذه الفضيلة لوحدها كفيلة بأن تأتي بثمار لمستقبل أفضل. وفي هذا الشيء الكثير من الإيمان شبه الدينيّ الذي يعتقد بحتمية نوال الثواب عند القيام بأعمال معيّنة مهما كانت غير محسوبة العواقب أو كانت من دون علاقة عضوية بالنتيجة المرجوّة.

في مقالة سابقة لي بعنوان “لماذا تستحيل الآن إعادة البناء عن طريق الثورة؟” ورد ما يلي:
إنّ “انفلاش” وانفلات الدول والسّلطات المركزية واقع حاصل بفعل وصول العلاقات في العالم إلى درجة مهولة من التشابك والاعتماد المتبادل أكثر من أيّ وقت مضى. والمنظومات الجاهزة لاستلام السلطة في أيّ مكان هي منظومات بالضرورة غير محلّية بل خليطة، والأشخاص العاملون في هذه المنظومات والذين يقودونها أو قادرون بالفعل على قيادتها ضمن تيّار العالم الرّاهن مدرّبون أصلاً خارج أوطانهم ليعملوا وفق منظومات تناسب التيّار العالمي، وهم ويتلقّون دعماً من هذه الجهة أو تلك أو من جهات عديدة. وهؤلاء على افتراض حسن نيّتهم وإخلاصهم لن يستطيعوا أن يقوموا بما هم غير مدرّبين عليه إلا في حالات نادرة جداً يمكن إهمال وجودها لفرط ندرتها. وإذا وُجِد أشخاص ذوو ميول محلّية قويّة فهم إمّا غير قادرين على الوصول على السلطة أو قادرون على ذلك ولكن المصالح العالمية سوف تقاطعهم، أو هم قادرون على الوصول إلى السلطة ولكنهم غير مؤهّلين لقيادة البلاد في عصر كهذا، لأنّهم ينتمون فكرياً وسلوكياً إلى عصر سابق.

أحد الأدلّة الهامة على هذا “الانفلاش” في مفهوم الدولة ومفهوم الحاكمية في العموم (وهنا أفترض جدلاً أنّ مفهوم الدولة ينطبق على بلد كلبنان. وليس في هذا أيّ استصغار لهذا البلد)، هو انعدام الثقة بالسُّلُطات. وهذا ليس حكراً على لبنان، بل نجده في كثير من البلدان التي تعاني من فساد مزمن، كما نجده أيضاً عند الأحزاب التي تروّج للفردانية المتطرفة في الغرب. والمشكلة في انعدام الثقة مشكلة عضوية وليست مرتبطة بالفساد فقط، بل تتعلق بنوع التربية التي تتوجّه للفرد في هذا الزمن. وهي تربية قد تمرّ عن طريق المدارس نفسها حتى لو كانت هذه تروج للعشائرية والمذهبية من ناحية أخرى، كما يتمّ ترويجها بشكل رئيسي، وبكثير من الطرق غير المباشرة، عبر ثقافة السوق والفردانية الأنانية المحبوسة في عالم التقنية ووسائل التواصل الاجتماعي.

هذا الانهيار في مفهوم السلطة والحاكمية، وجزء منه مبرّر لا ريب، ليس منطلقاً من مفاهيم روحية، على سبيل المثال، كتلك التي تعمل على بناء إرادة الخير والمحبة تجاه كافة الموجودات إلى درجة يأمل عندها صاحب هذا المعتقد بوصول الأفراد والجماعات إلى إرادة الخير وفعله من دون سلطات حاكمة، بل عدميّ يتسم بعدم الاحترام لأيّ من الموجودات، أفراداً وجماعات، وتقديس النزعات الذاتوية المؤقتة. نجد مثلاً في الحراك اللبناني نفسه بعض ممن يحرّضون على الجيش اللبناني ويتهمه بشتى الاتهامات بمجرد أن يحاول الأخير القيام بأبسط واجباته أو تنفيذ أبسط الأوامر المناطة به، مثل فتح طريق مقطوع مثلاً! الفوضويون لا يشجبون العنف فحسب بل يشجبون الصرامة في حد ذاتها كأسلوب حياة وطريقة إدارة، ويُدينون أيّ محاولة لمعارضة التهاويم والنزعات الفوضوية المؤقتة مهما كانت هذه المحاولة.

هذا النزوع للفوضوية المطلقة -وإن تجلبب بالمدنيّة والدبمقراطية- ليس جديداً في التاريخ، وليس ابتكاراً من ابتكارات هذا الزمن، ولكنها ربما المرة الأولى التي نشهد فيها وصول هذا النزعات إلى مرتبة الإيديولوجية التي تروّج لها دول بعينها وتموّلها وتشجّع عليها وتنقلها إلى مرتبة الفضيلة. ولهذا فعندما يأمل الآملون ببناء دولة راقية عن طريق ثورة أو انتفاضة في الزمن المعاصر، فإنّ السؤال الأوّل الموجّه لهم هو: من سيبنيها وبأيّ وسائل؟ الإرادة وحدها لا تنفع إذا لم تنتقل إلى حيّز الفكرة ومنه إلى حيّز التطبيق العملي والواقعي. والمتربّصون من القوى العظمى التي تنتظر الانقضاض على ما تبقى خارج سيطرتها يعملون على مدار الساعة لتنفيذ ما يريدون، والأسوأ من كل هذا أنّ أكثر القادرين على الفِعل من الرّاكبين موجات هذه الانتفاضات هم ممن يعملون أصلاً في النوادي التي لا تُحصى التي يديرها هؤلاء الجاهزين للانقضاض.

معظم “الثوريين” اليوم، سواء في لبنان أو العراق أو الجزائر أو…إلخ من دول العالم، إذا لم يكونوا من المحرَّكين بشكل محترف عن طريقات هيئات عالمية ونوادٍ دولية معروفة وغير سريّة، فهم من الرومانسيين الذين يعتقدون بفضيلة الفعل الثوري في حد ذاتها كما ذكرنا اعلاه، أو يؤمنون بمفاهيم ساذجة يعتقدونها أنها ستكفل لهم النجاح، كأن تكون ثورتهم “شبابية” مثلاً أو “ثقافية” أو فيها الكثير من “الحبّ” و”الألوان” والفعاليات الجميلة والمسلّية، أو إنّها تتسم بالعناد والإصرار والرغبة بـ”الديمقراطية”. هذا كله يضاف إلى مفهوم غير مدروس عن “السّلمية” حيث يعتقد معظم المشاركين أنّ كل ما يفعلونه من دون سلاح في اليد يندرج من دون شكّ تحت بند “المقاومة السِّلمية” الجاهزة لتعلن نفسها كضحية بعد أول فعل معارض من قبل الشرطة أو حتى انتفاضة مضادّة. ويعود السؤال مجدداً: من سيبني الدولة بكل ما فيها من علاقات متشابكة. وما هي الوسائل؟

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.