الحقّ الذي لا يحتاج إلى القوّة المفرطة


بقلم فادي أبو ديب

IMAG4663

قام الديمقراطيون في جنوب إيطاليا بإبادة أتباع فيثاغورس حوالي القرن الرابع قبل الميلاد، ثم قامت الحكومة الديمقراطية في أثينا بإعدام سقراط أيضاً في القرن الرابع قبل الميلاد، كما قامت أيضاً السلطات الإمبراطورية المسيحية في القرون الميلادية الأولى بملاحقة أتباع ما يُسمّى اليوم بالحركات الغنوصية وحرقت كتبها سعت للقضاء على تراثها. وبعد ألفيتين ونيف من السنين (أو خمسة عشر قرناً تقريباً في حالة الحركات الغنوصية) ما زالت أفكار فيثاغوراس وسقراط حيةً من خلال أفلاطون وإقليدس وغيرهما، وما زالت الأفكار الغنوصية والأفلاطونية المحدثة وغيرها تظهر هنا وهناك بشكل قوي وبسهولة يضممنها انتشار الكتب والإنترنت.  ما زال الكثيرون من المختصّين وغير المختصّين يجدون أقوى الدوافع لإعادة دراسة الفلسفات القديمة على الرغم من صعوبتها وتعقيد بعضها ومن ثم تطوير هذه الأفكار والتأمل فيها.

وقد حصل هذا ويحصل من دون أن يضطر سقراط إلى المساومة ومن دون أن يكون “حكيماً” في إجابة المحكمة لينجو من الإعدام ومن دون أن يفعل ذلك أتباع فيثاغوراس.  لم يحدث هذا لأنّ أفلاطون أو سقراط أو فيثاغوراس أو فالنتينوس الغنوصي وكثر غيرهم خطّطوا لتأسيس وضمان استمرارية أفكارهم وعوالمهم الفكرية والميتافيزيقية عبر منظمات ومؤسسات تعمل على الحفاظ على إرثهم، بل لأنّ من طبيعة الأفكار ذات الصلة الحقيقية بنسيج الوجود وجوهر كينونته أن تستمرّ تماماً كاستمرار طاقة الكون والمجرّات ومادة النجوم والكواكب وعناصر الأرض.  لم تضطر حوامل هذه الأفكار إلى الاندماج السياسي أو المالي بالسّلطات الحاكمة للشعوب وبعناصر القوة والنفوذ فيها.  بالتأكيد نحن نعلم أنّ كثيراً من المشاهير والمؤثرين كانوا من محبّي هذه الفلسفات القديمة، ولكن هذه المحبّة لم تتحوّل إلى مؤسسات دّعّوية أو منظمات سياسية لها لها تأثير اقتصادي وقوة باطشة.  ورغم ذلك انتشرت هذه الأفكار وهذه التعاليم وخرجت بألف شكل وشكل. فهل تُصنَّف هذه ضمن “أعمال الروح القدس” أم لا؟ إذا كانت ليست من أعمال الروح القدس فهل من المعقول أن تضطر الكنيسة، التي تدّعي أصلاً سماوياً للمساومة، للمساومة والدخول في لعبة السياسة والقوة ونهب الموارد من أجل إقامة بناء كنيسة هنا أو هناك، فتكون بذلك أفكار سقراط وفيثاغوراس التي لم تحتج لكل هذه الأحابيل والألاعيب أقوى من “هذا” الروح القدس؟

وإذا كانت هذه الأفكار الخالدة من أعمال الروح القدس في تاريخ البشر، فلماذا لا تتبع الكنيسة الإرسالية هذا المثال وتبقى واثقة من أنّ الفكرة الصحيحة ستستمرّ حتى لو انتهت المؤسسة التي تعتنقها، وحتى لو لم تجد لنفسها موطئ قدم، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، في كل بقعة من بقاع العالم إذا كان هذا التواجد يعني الدخول في لعبة إله المال التي لن يخرج منها أحد سليماً؟

الإعلان

One comment

  1. مقالة رائعة أؤيدها بقوة. أستغرب ممن ينزعج لأن أطفاله هنا يدرسون عن الديانات الأخرى تماما كما كنت استغرب من عدم حضور المسيحيين لدروس الديانة الإسلامية.
    الواثق من دينه لا يخشى مواجهة المعتقدات والأفكار الأخرى.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.