بقلم فادي أبو ديب

كلّما ضربت إسرائيل دولة في محيطها العربي، وخصوصاً سوريا والعراق، نتسائل جميعاً وأنا أوّلهم: “إلى متى؟ متى الردّ؟” ولكن الأمر في الواقع ليس بهذه البساطة. وهنا يجب أن يكون واضحاً أنني لا أدافع عن التخاذل والقيادات المتخاذلة، والعميلة، أبداً، ولكن يجب الإقرار بأن حسابات المواجهة مع إسرائيل ليست عسكرية في المقام الأول.
ليس من السّهل الردّ على إسرائيل عسكرياً ومن قبل دولة ذات وضع قانوني بحسب الأمم المتحدة. فكلما أردنا أن نتحدّث عن إسرائيل يجب أن نتذكّر جيداً أنّ الجانب المدني في إسرائيل هو جانب ضروري معيشياً ولكنه لا يشكل أبداً جوهر وجودها. إسرائيل هي حرفياً الذّراع العسكرية الضاربة للحاكم المصرفي الأعلى في العالم. وأي هجوم على إسرائيل يتخذ طابعاً حربيّاً كبيراً يُفهَم في كلّ مكان من أنحاء إمبراطورية السوق الكونية على أنّه محاولة لضرب جوهر النظام العالمي. والعالم لا يُعنى بما تفكّر أنت أو ما أفكّر أنا عاطفياً، سلباً وإيجاباً، بخصوص إسرائيل، بل بما تعنيه في الحقيقة، أي من حيث أسباب وجودها والهدف من إنشائها ودعمها. ويمكن لتوضيح هذه الفكرة ملاحظة كمية الدعم المالي الهائل الذي تناله هذه الثكنة العسكرية العملاقة التي تُدعى “إسرائيل” (حالها كحال أي سوبرماركت يضع لافتة مكتوب عليها “بابل” أو “أوغاريت”). فهل يصدق أحد أنّه في عالم الحسابات المالية الشديدة الدقة يقدم أحد على صرف المليارات فقط من أجل التعويض المالي والالتزام الأخلاقي (حالة ألمانيا مثلاً) أو فقط لأسباب عاطفية تتمثّل في الشفقة والمحبة (حالة الولايات المتحدة الأمريكية وآخرين)؟ هذا تفكير غير منطقي وغير عملي وغير علمي أيضاً.
في مقالة نُشِرت حديثاً على موقع الجزيرة، وهي بعنوان “هل طريق تقدّم العرب يمر عبر إسرائيل حقاً؟“، يشير الكاتب إلى أنّه ليس من الصحيح القول إنّ طريق تقدّم العرب يمرّ عبر إسرائيل، ويستشهد على ذلك بحالة جمهورية مصر العربية على سبيل المثال التي ما انفكَ وضعها الاقتصادي ينحدر ويسوء رغم معاهدة السلام القديمة مع إسرائيل. ورغم أنّ الكاتب محقّ من هذه الناحية، إلّا أن الحقيقة هي أنّ العلاقة مع إسرائيل ليست ضامناً للتقدّم، بل هي بنظر إمبراطورية السوق العالمية (إمبراطورية المال والثروة) مجرّد صكّ للسماح بالتواجد كدولة قابلة للحياة! هذا هو الأمر، فالإمبراطورية لا تعِد المطبّعين مع إسرائيل بالمستقبل الزّاهر، بل بمجرّد السماح لها بالتواجد كدولة قابلة للحياة بالحدّ الأدنى!
الأسباب اللاهوتية إذن (بشقّيها اليَهَوي والإمبراطوري-المالي، أي من حيث كونها تشكّل رمزية دينية معينة ترتبط بشكل عضوي بالإمبراطورية المالية العالمية وفلسفة سوقها) تشكّل جوهر وجود هذا المستطيل الأمني. وأكرّر مجدداً، العالم “غير مَعني إطلاقاً” بنظرتك أنت عن إسرائيل أو مقارناتك بينها وبين غيرها.
وكما في كل مكان، يحق لك أن تفعل كل ما تريد تقريباً إلا أن تحاول تغيير الأمر الاقتصادي الواقع. سينفتح الجحيم على مصراعيه في وجهك.
في الآونة الأخيرة راجت عادة سيئة بين شباب العرب، وهي الانبهار بما تمتلكه إسرائيل من إمكانيات علمية وتقنية هائلة، ومن ثم الولوج في حالة من رعشة العجب لما وصل إليه التجمّع العبري من قدرات. وإذ كانت المعلومات حول هذه القدرات صحيحة من دون أدنى شكّ، إلّا أنّ السبب الحقيقي ليس ما يظنون. السبب الحقيقي لهذا التقدم هي ما ذُكر أعلاه من أنّ إسرائيل ليست دولة كباقي دول العالم التي كافحت لنيل الاعتراف أولاً ثم لاكتساب العلاقات الدولية ومن ثم استيراد الإمكانيات للبدء في طريق الاستقلال التقني والإنتاج المحلي، بل هي (ولا أعتقد أنّ هذا سرّ كبير بالمناسبة) جزء عضويّ من المنظومة المتقدمة، أو قل هي حجرة من حجرات القصر الإمبراطوري. والشركات ومراكز الأبحاث هي التي تقدم بنفسها لتفتح فروعاً لأعمالها هناك من دون أية محاذير أمنية (إلا القليل منها فيما يخص أسرار كل دولة، والتي لا بدّ من وجودها).
فعلى سبيل المثال، لا تخاف أية دولة في العالم من بيع إسرائيل مواداً دوائية أو كيميائية معينة خوفاً من استخدامها في صنع أسلحة معينة، فلا أحد يمانع إذا استُخدمت (وهناك ربما استثناءات مؤقتة وهامشية موجودة وليست ذات قيمة). ولا أحد يمتنع عن فتح مركز أبحاث متقدمة من أي نوع (وإن امتنع فسيكون الأمر متعلقاً بتفاصيل صغيرة لا تعطل تقدم أي دولة بالمعنى الحقيقي) فهو يعرف أنّ إسرائيل في النهاية “ابنة أمه وأبيه” وهي “من عظام الرقبة” ولا خوف من حيازتها لهذه التقنية أو تلك، أو ينظر في أسوأ الحالة على أنّها “ابنة السيّد” وأنّ منحها أمراً ما سيتيح له الحصول على بعض المكافآت التي تقوف أيّ خطر مفترض.
وهذا من دون شكّ مختلف تمام الاختلاف عن خوف هذه الجهات نفسها من منح كثير من الأمور والتقنيات أو من بيع بعض المواد لكثير من دول العالم أو السماح لها بالاستمرار في أبحاثها حين تتواجد خوفاً من أن تستخدمها في هذا الأمر أو ذاك. فإسرائيل مهما بلغ الخلاف معها حول بعض التفاصيل تبقى “ابنة البيت” و”ابنة العائلة” أو على الأقل “ابنة السيّد” بينما غيرها “غريب” و”برّاني”. هذا كلّه واضح لمن يفتح عينيه. ولا حاجة هنا إلى التذكير المفصّل بأنّ كثيراً من سكّان الثكنة العبرية يحمل جنسيتين، وفي حال سفره للدراسة لن يجد أدنى مشكلة في العمل وفي القبول ولديه تسهيلات مهولة تجعلنا نرى اليوم أن عدة مؤسسات مالية ضخمة في العالم يمتلكها إسرائيليون وبعضهم ضباط سابقون في جيشها.
الأمر بالنسبة إلى سكّان هذه الدولة، هو كما نعيد ونذكّر مجرّد انتقال بين حجرات المنزل الواحد، ولا يمكن مقارنته على الإطلاق بحالة شخص خرج من بلدان مغضوب عليها أو بلدان ‘عالم-ثالثية’ ليؤسس اعمالاً في الخارج تُعتبر من الأكثر نفوذاً أو ليدرس في أفرع علمية وتقنية تعتبر من أشدّ العلوم خطراً والتي لا يمكن السماح بانتقالها “للغريب” و”البرّاني”.
[…] لا يوجد في المنظومة العالمية مكان للموقف الثالث (للمزيد اقرأ هذا المقال على الموقع). الدولة التي لا تطبّع مع إسرائيل في السر أو العلن لا […]