“في مسألة العلاقات الغربية-العربية والإسلامية عمومًا نقف اليوم، في العالم العربي، أمام طرفين: طرف يتهم الإسلام والعرب، ولسان حاله يقول “يا ليتنا نسمع من الغرب ونتبعه ليرضى عنا ويفتح لنا أبواب السماوات والأرض”، وطرف آخر يقول بالعكس فيحضُّ على معاداة الغرب بطرق مختلفة. وكلا الطرفين يعتقد أنَّ المشكلة هي بين الإسلام تحديدًا والغرب أو بين الدين والعلمانية. ومع الاعتراف بأنَّ هذه المشاكل موجودة بكل تأكيد، إلا أن منحها خصوصية مبالغًا فيها أمر لا يمكن أن يكون صحيحًا لا من الناحية الواقعية المعاصرة ولا من ناحية دراسة التاريخ. لهذا ستقدم هذه المقالة نموذجًا آخر وهو نموذج العلاقات الغربية-البيزنطية، مع إدراك أنَّ مصطلح “الغرب” كما نستعمله اليوم لا يمكن أن ينطبق على أوروبا في بدايات العصور الوسطى، أي في القرون الأولى بعد سقوط روما عام 476 م.
…
إنَّ الغرب الذي نعرفه اليوم كغرب استعماريٍّ (من دون اختزال الغرب كله إلى مستعمر فقط، رغم أنه كان وما زال مستعمرًا منذ نشوء الدولة الحديثة على الأقل) نشأ مع “فرنسا” القديمة وتغذى حتى منتصف القرن العشرين تقريبًا على مفردات “التنوير” الذي تشكِّل الهوية الفرنسية قلبه ولبَّه من دون أدنى شكٍّ، والذي كان ذا دور كبير أيضًا في البناء الفكري والقانوني للولايات المتحدة الأمريكية.
…
هذا التصوُّر للعالم استمرَّ في أوروبا الغربية ومن بعده في العالم الجديد ممثلاً بالولايات المتحدة الأمريكية: المشاكل العالمية التي تتحمَّل أوروبا والولايات المتحدة جزءًا رئيسيًا منها (ولن نبالغ بالقول إنها هي السبب لكل المشاكل لأنَّ هذا غير صحيح) يُنظَر إليها على أنَّها “من الخارج”، وأنَّ تلك هي مشاكل “الآخر البعيد” وهي مسؤوليته الكاملة ومذنوبيته الأبدية أو ربما قدره (إذا كان القائل بهذا من النوع اللطيف الذي لا يلقي بالتهم والإدانات يمينًا وشمالاً!)؛ فإذا فشلت دول الشرق الأوسط التي يشكل تاريخها الحديث جزءًا من تاريخ فرنسا وإنكلترا فهذه مشكلة “خارجية” يمكن للفرنسي أو الإنكليزي والأمريكي (والذين ما يزالون حاضرين بقوة هناك على كل حال) أن “يتوسَّط” فيها ولكنها ليست مشكلته أبدًا وهو ليس جزءًا منها؛ وإذا جاعت “أفريقيا” (التي تشكل بكل كياناتها وسياستها واقتصادها ومشاكلها الحالية – على الأقل – جزءًا عضويًا ومكونًا رئيسيًا من التاريخين الأوروبي والأمريكي) فهذه مشكلة “عند الآخر” الذي يمكن مساعدته أحيانًا عند وجود فائض مالي، ولكنها تبقى “خارجية” ويمكن الصبر عليها وإيجاد الحلول لها على المدى الطويل أو في أوقات الفراغ. وهكذا تطول السلسلة ولا تنتهي. إنَّ العقلية الشارلمانية والإفرنجية فيما بعد، والأوروبية لاحقًا (مع نابليون وهتلر والولايات المتحدة)، سلسلة واحدة من الإنكار والتسويف والتجاهل وشهوة الإمبراطورية العالمية الموحدة، لم تنشأ في مواجهة الإسلام أو العرب أو الشرق المتخلِّف ولن تنتهي فيما لو اختفى هؤلاء من مسرح التاريخ، لأنَّها بدأت قبل وجودهم، لا بل هي بدأت حين كان الشرق في عزِّه وأوج مجده على مستويات عدة لا تخفى على أحد. فالصراع صراع قوَّة ونفوذ وما تبقى أمور تفصيلية وثانوية، والصراع بين الأمم لا يحتاج إلى ذرائع حضارية وثقافية ودينية، فتاريخ العالم يفيض بالحروب الأهلية وحروب الإخوة والجيران المتشابهين.”