إذا كانت الصحراء هي لعنة ساحل شرق المتوسط، فهل هي بركته أيضاً؟!


بقلم فادي أبو ديب

واحة

يُقال أحياناً إنّ حضارة الهلال الخصيب في شرق المتوسط وما بين النهرين كان دائماً مهدداً بالغزوات القبلية التي تأتي من الصحراء القريبة، والمقصود بها بادية الشام وبوادي شبه الجزيرة العربية.  فكلما ازدهرت مدنية في شرق المتوسط بقيت رازحة تحت شبح الغزوات التي يبدو وكأنها لا تنتهي والآتية من عمق ذلك الخضمّ الرمليّ اللامتناهي، الولّاد لمجموعات من البشر بالسرعة نفسها التي تمّحي تحت كثبانه المدائن والثقافات وآثار السكن والعمران.  وهكذا يندب أبناء الحضارة الزراعية والحضارات التي تليها القائمة على الصناعة والتجارة، وأخيراً وليس آخراً الاستهلاك والرفاهية (أو ما بقي منها في زمن الحروب والأوبئة)، يندبون حظهم الذي تآمرت عليها ظروف الجغرافيا ونوائب التاريخ فجعلتهم لا ينعمون بالمدنيّة التي ينعم بها أبناء المناطق الأخرى من سواحل المتوسط وما ورائها.

ولكن هل تكون هذه اللعنة هي بركة شرق المتوسط أيضاً؟  ماذا يفعل الذي يتعب من الحضارة؟ إلى أين يلتجئ الذي يسأم من الارتفاع الشاهق ومن مجالس السّحاب ومن سُكنى مدنيّة الزخرف؟  أليست الصحراء هي ذلك المهرب؟  أليست الصحراء بمثابة الغابات التي ما زالت تسكن حتى الآن مركزاً رئيسياً في وجدان سكّان “دول الرّفاه” الاسكندنافية؟

لعلّها بركة، وأيّما بركة، أن تكون شخصية ابن شرق المتوسّط مزيج عجيب من حضارة الزراعة وبنوّة الصحراء!  وهو بهذا المزيج العجيب، إذا ما أدركه، محصّنٌ ضدّ الشعور بحتمية التقدّم الذي جعل ملايين البشر وعشرات الفلاسفة لا يجدون إلا القنوط واليأس إذا ما وصلوا إلى حائط مسدود مع محيطهم الحضاريّ؛ فأذهانهم لم تعرف مكاناً للسكنى البديلة والحميمية البدائية واليقين الأكيد بأنّ هنالك عالماً آخر ما زال قائماً بكل ما فيه.  التيقّن من هذا الوجود البديل لا يعني بالضرورة العودة إلى سكن البوادي (!) ولكنه مؤشّر قلبيّ إلى أنّ الإنسان كان وما زال بإمكانه أن يكون سعيداً حتى بوجود أقلّ القليل، لا بل إنّ بعضاً من أفضل أخلاق البوادي ما زال قادراً على العيش في قلب المدنية الحديثة حتى وهي تتدهور بعدما فقدت أساسها المعنويّ وموجّهها الحكيم.

عددٌ لا يُحصى من البشر بما فيهم الكثير من المفكرين لا يجدون بدّاً من الهروب من نحو القمم التي تلي المسير المتعرّج الذي ما فتئ يضيق صعوداً، وهم إذا كانوا عالمين بأنّ القمة أضيق ما في هذا المسار، وهي إذا ما أشرفت على كل يحيط بها إلا أنها في النهاية ليست إلا سجناً في الهواء الطلق- وهم إذا كانوا عالمين، وأغلبهم غير عالم، لا يعرفون طريقاً آخر للمُضيّ الطبيعي من دون التقيّد بعقيدة التقدّم، وفي ظنّهم أنّه قد حُكِم على البشر أن يطيعوا قوة التاريخ غير الشخصانية التي تقودهم قسراً أو طوعاً.  أمام هذه الصورة تمنحنا الصحراء (كما تفعل الجبال أيضاً والغابات) تلك الـ”لا” المدويّة.  وهذه الـ”لا” محروسة بالبرهان الأكيد المؤكّد عبر خبرة آلاف السنين أنّ التاريخ في الصحراء له قوانين مختلفة وأنّ الجغرافيا البدائية تلك تحتوي على جغرافيا أخرى للروح التي تمتلك خيار التردّد جيئة وذهاباً بين المدنية والطبيعة اللانهائية.

هل الصحراء بركة لشرق المتوسّط؟  نعم، بكل يقين، وهذا لا يكون من دون أن يعرف المُبارَك عناصر بركته ويمنحها من نفسه وقلبه ما هي جديرة به.

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.