خواطر حول سوريا والعروبة والخطاب المناهض للإمبريالية


بقلم فادي أبو ديب

(1)

بعد خطاب رئيس الجمهورية بشار الأسد الأخير في دمشق وخطبة وزير الأوقاف في طرطوس يمكن أن نقول التالي:

المشكلة مبدئياً ليست في قومية سوريا الحالية، عربية أم سريوهلينية. المشكلة أن النخبة الحاكمة في البلاد تنكر، بمستويات متفاوتة، تاريخ البلاد من جهة والأهمية الفعلية لمكوناتها الحالية من جهة أخرى.لدينا نخبة حاكمة لا ترغب بتعميم المعرفة التاريخية الحقيقية عن البلاد، وبالتالي هي ترفض ضمناً الاستفادة الفعلية من هذا الإرث على مستوى وجودها الحاضر.حتى الصين التي يحكمها الشيوعيون “التقدميون” تستميت نخبها التي تخاطب الخارج لإبراز أن الصين وريثة الحضارة الكونفوشية التقليدية وتقدم نمطاً أخلاقياً وفلسفياً وكوزمولوجياً تعتبر أنه جدير بمنافسة قيم الليبرالية الغربية. سؤال الهوية مهم ليس لإبراز أن جزءاً من التاريخ ينفي جزءاً آخر ولكن من أجل الحقيقة والبناء عليها في التعليم والمناهج والنظرة للعالم ولموقع البلاد في هذا العالم. نتمنى من حزب ما-بعد-البعث الحاكم أن يكف عن هذه الولدنات المعرفية والخطابات التي لا فائدة منها إلا تأجيج الحساسيات.

اعترف بالعروبة من دون الحط من شأن تاريخك وحاضرك.

لو خرج مسؤول سوري من النخبة الحاكمة وقال على سبيل المثال لا الحصر: نعتقد أن العروبة كفلسفة تقوم على التاريخ الإسلامي تقدم هوية أوسع وأكثر قدرة من الناحية التقنية على بناء مجتمع أوسع وأمتن في مواجهة العالم بما تؤمنه من مساحة جغرافية وكتلة بشرية وموارد اقتصادية…إلخ- لو قال هذا لقلنا إن هذا تفكير استراتيجي وواقعي يستحق التفكير ويقوم على مخططات وأرقام ووقائع وحسابات وما شابه. وهو على الأرجح سيكون محقاً، فالعالم اليوم عالم التكتلات الكبرى والموارد الهائلة والأمم ذات العمق الجغرافي. ولكن في سوريا لا يقول المسؤولون هذا. في سوريا يقول وزير الأوقاف، وعمريت بجانبه وأرواد أمامه وأوغاريت خلفه، يقول إنه لم يسمع بالأمة السورية. يعني هو لا يريد تجاوزها وهذا حقه وربما هذه هي صيرورة التاريخ- الانطلاق من الأضيق إلى الأوسع- بل هو لم يسمع بها أبداً. فعروبته ليست فلسفة تقدمية بل نكوص ورجعية، ليس انطلاقاً لمعانقة التاريخ بل إلغاء وتقوقع.

من الواضح أن السلطة السورية لم تتعلّم بعد 10 سنوات من الحروب تغيير أسلوب خطابها وتوجّهها إلى شعبها أو الشعوب والقبائل الخاضعة لحكمها. ألم يكن مثل هذا الخطاب ونتائجه سبباً من أسباب تدمير البلاد؟

(2)

ليست المسألة إذن ما إذا كانت سوريا عربية أم سورية، فسوريا تواجه خطراً وجودياً الآن.

المسألة هي في السعي لإلغاء الآخر الموجود في الحاضر والذي كان في التاريخ، أو تشويهه، أو تحريفه. وبالتالي إلقاء التهمة المباشرة وغير المباشرة على أي مسعى علميّ حاضر بأنه عمل خياني أو مرتبط بخطة خبيثة أو غبي ساذج أو…إلخ. (ألم تكن دائماً هذه حججاً للمستبدين عبر التاريخ؟ هناك مبرر ما دوماً).

المسألة هي في غياب الخطاب العلمي والمرتكز على حقائق، او المرتكز على حقائق مجتزأة جداً ومختلطة ومنتخبة بشكل مضلل.

المسألة في الأسلوب السوقي للخطاب أحياناً أو الأسلوب الاستصغاري دائماً (حتى من دون أسلوب سوقي).

المسألة ليست في مديح العروبة. وليست في مدح لغتنا العربية التي نحبّ ونعبّر فيها عن كل ما نحن عليه وتعبّر هي فينا عن كلّ ما هي عليه وكل ما ستثير إليه. وليست حتى في الإثبات الواقعي لضرورة الهوية العربية.

المسألة أنك يا صاحب الزمان ترفض الاعتراف بوجود غيرك (حتى الذي لم يسرق النفط😎).

والإيجابي الوحيد في كل الموضوع هو طرح الموضوع بشكل رسمي على العلن لأول مرة.

(3)

ويُقال ما لنا وما لهذا الموضوع الآن. أليست الأولية أن نتحرر من الإمبريالية. هذا سؤال محقّ. ولكن باسمه يُعطَّل التاريخ ويتوقّف الإصلاح وتُحجَب الحريّات ويُكبَح تحقيق الفرد لشخصيته وتحقيق الجماعة لأسباب حياتها.

خطاب الأولوية الذي يحيل كل شيء على صراع واحد ينبغي حذف كل شيء آخر وكل نشاط وكل مسعى بوجوده هو في الواقع من صلب العقيدة الماركسية اللينينة وخطابها. وكما يحلِّل الفيلسوف الوجودي الروسي نيكولاي برديائيف هذا الخطاب في مقالته “الشخصانية والماركسية”، فإنّ الخطاب الماركسي اللينيني خطاب مستقبلي. إنه يحيل كل شيء على المستقبل. الحاضر هو صراع فقط. الحاضر ديالكتيكية بالشكل الهيغلي. هيغل أيضاً في جدليته يحيل على المستقبل. والفكرة تتجلى بإطلاقها في المستقبل. المطلق ليس حاضراً إلا بشكل كامن وجزئي، يتفتح رويداً رويداً عبر صيرورة التاريخ- هذا المستقبل الذي لن يأتي بطبيعة الحال لأنه عنصر منطقي (ميتافيزيقي) وليس تاريخيّ حقيقةً، رغم أنه يبدو كذلك في الخطاب الهيغلي والماركسي.

من ناحية أخرى، المستقبل في الخطاب الديالكتيكي مفهوم لا يتجسّد حقيقة في الواقع. هو دائماً آتٍ (بالزمن المستمر) ولكنه لا يمكن أن يكون بالزمن التام، فهو مستقبل، والمستقبل في الخطاب الذي من هذا النوع هو مستقبل دائماً (“المستقبل” في الخطاب الاقتصادي السوقي هو نوع من الحاضر المؤجَّل- إذا صح أن أستعمل هذا التعبير- يمكن تحديده في كثير من الأحيان باليوم والساعة والسنة كأن يُقال مثلاً إننا سنبدأ بالخطة الفلانية عام 2050). هو الأبد المستقبلي إن صح التعبير. هو التاريخ اللاتاريخي، أي نتحدث عنه بطريقة تاريخية ولكنه غير تاريخي ولم يدخل حيز التأريخ؛ أو هو اللاتاريخ التاريخي، أي العنصر فوق التاريخي الذي نصرّ على الكلام عنه بطريقة تاريخية.بحسب المصطلح اليونغي، يمكن فهم المستقبل في الخطاب الماركسي اللينيني على أنه “تفكير هوامي” يعبّر عن نفسه بطريقة “التفكير الموجَّه”. إنه شعر يقتحم عالم النثر متخفياً كسردية، كقصة، بدل أن يكون قصيدة.

لا شكّ أنه خطاب مغرِ للغاية، تماماً كالخطاب الإسخاتولوجيّ الأبوكاليبتيكيّ الديني؛ فهو ممتاز لإنشاء الدافع عند الأفراد والجماعات والرجاء بالملكوت القادم أو الفردوس، ولكن هذا مشروط بأن يكون دافعاً لتجلّي جميع عناصر النشاط البشري وليس لإلغائها كلها باسم الأولوية والمستقبل، أو باسم الانتظار تحت شعار “إما ذاك أو لا شيء”. يظهر الخطاب الماركسي اللينيني بشكل علميّ طوباويّ، ولكنه ليس كذلك تماماً، لأن مفرداته الرئيسية كالاشتراكية والشيوعية لا يمكن ضبطها علمياً بالشكل المخبري فهي صيرورات يمكن الاختلاف في تأويلها بشكل هائل.

إنه يقوم بالطبع على بعض الملاحظات العلمية العامة، ولكنه مغرق في الشعريّة.

جميل لقصيدة. مرعب لتاريخ يسعى إلى الجريان.

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.