صدر العدد الثالث من مجلة “مثاقفات” التي تصدر بنسخة ورقية في بريطانيا. وبسبب مشكلة التوزيع الناجمة عن الإغلاق وانتشار العدوى أنشر هذه المقالة هنا.
للاشتراك في مثاقفات: اعرف المزيد.

عن التفكير الموجَّه والتفكير الهوامي عند كارل غوستاف يونغ
فادي أبو ديب
في مستهلّ كتابه “رموز التحوّل” يقدم كارل يونغ مفهومين مهمين عن أنماط التفكير البشري. هذان المفهومان يتعلّقان بنمطين اثنين بشكل خاص من أنماط هذا التفكير، وهما: التفكير الموجَّه directed thinking والتفكير الهوامي fantasy-thinking،[i] غير الموجَّه، أو تداعي الصور.
يرتبط مفهوم التفكير الموجَّه بمسألة اللغة؛ فالتفكير الموجَّه هو الأفكار التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً باللغة أولاً ومن ثم بالدوالّ اللفظية، والتي تتخذ لنفسها عادةً فيما بعد مكاناً في الحيز الموضوعي أي الواقعي على شكل نص مكتوب أو كلام منطوق؛ “فطالما أننا نفكّر بشكل موجَّه فإننا نفكّر من أجل الآخرين ونتكلّم إليهم.”[ii] ولكن هذا لا يعني أبداً أنّ هذا النوع من التفكير هو مجرَّد كلمات، فاللغة أوسع من الكلام المنطوق الذي يشكّل مجرَّد تدفقها الظاهر.[iii] ويعتبر يونغ أنّ هذا النوع من التفكير هو بالضبط ما كان ينقص العالم القديم، الذي وإن كان قادراً على التوصل إلى العديد من المكتشفات العلمية والتنمية إلا أنه لم يكن يستطيع بعد أن يوجّهها بـهذه الطريقة اللغوية، أي لم يجعلها قابلة للتدوين وبالتالي قابلة للحفظ الثقافي والتطبيق الموضوعي المنظّم المتميّز بالديمومة، أي أنه كان عاجزاً عن تحويل أفكاره إلى تقليد مسجَّل ينقل الطاقة النفسانية عبر الزمن.[iv]
أما التفكير غير الموجَّه فهو ببساطة ما يطلق عليه اللسان العامّيّ “الحلم” وهذا يعني بالدرجة الأولى التفكير التأملي الذي يرتكز على تدفق الصور، والذي يقود إلى عوالم الخيال وأحلام اليقظة خلال فترة الحياة النهارية وإلى المنامات في حالة الحياة الليلية؛ حيث يفتقر التفكير حينها “الأفكار الأساسية وحس التوجُّه النابع منها، فلا نجبر أفكارنا على التحرك وفق مسار معيَّن، ولكن نتركها تطوف أو تغرق أو تعود لظهور بحسب جاذبيتها المحدَّدة.”[v] ويستشهد يونغ في هذا الموضوع بالفيلسوف الأمريكي وليام جيمس الذي يعتبر أنّ “كثيراً من تفكيرنا يتألف من سلاسل من الصور التي تولّد إحداها الأخرى، أي من نوع من حلم اليقظة التلقائي والذي يبدو على الغالب أنّ البهائم العليا قادرة على التفكير بمثله. هذا النوع من التفكير يقود مع ذلك إلى خلاصات عقلية عملية ونظرية.”[vi]
ولكن يونغ يعارض جيمس في اعتباره التفكير الموجَّه منتجاً في حين أن التفكير الهوامي أو الحلميّ تفكيراً اجترارياً أو نسخياً. فالأخير وإن كان ليس منتجاً أو ابتكارياً بشكل مباشر إلا أنه ولا شك فكرٌ كاشف، من حيث أنه يسمح للعوامِل والأفكار الباطنة أن تعبّر عن نفسها وتخرج إلى مستويات أكثر وعياً من النفس البشرية. لا بل إن يونغ يذهب إلى أن هذه العوامل الباطنية لا سبيل لها إلى الخروج إلا من خلال التفكير الخيالي السلبي.[vii]
ويشير يونغ إلى أنّ السيادة الكاملة للتفكير غير الموجَّه وهو تفكير ذاتيّ انطوائيّ يؤدي إلى تشوه نظرة الإنسان للعالم وإلى أعراض توحّدية autistic مثل الفصام أو أعراض الشبق الذاتي الطفلي autoeroticism مثل الوسواس القهري.[viii] وهذا يعني أن هذه الدوافع الباطنية هي بحاجة دائماً إلى وضعها في الإطار الصحيح لاستعمالها كما ينبغي، أي بحاجة لترتيبها واستثمارها من خلال التفكير العقلانيّ أو الموجَّه. ويربط يونغ بين هذا التفكير الهوامي- الذي سبق وذكرنا أنه ضروري وكامن في الإنسان- وبين الأسطورة الموجودة عند ثقافة ما أو شعب ما. يرفض يونغ اعتبار الأساطير مجرد نوع من النكوص الطفلي بل هي تشكِّل “إحدى أهم متطلبات الحياة البدائية”.[ix] وهذا يعني أنه مكوّن أساسي من مكوّنات الشخصية الإنسانية، على المستوى الفردي، بشكل خاص وليس أمراً حصرياً عند الطفل، وعلى المستوى الجماعي أيضاً، وبشكل خاص -وليس حصرياً- في زمن الأساطير أو العصر ما قبل العقلاني. ويؤكد يونغ أنّ “التفكير غير الموجَّه هو بشكل رئيسي ذاتيّ التحفيز، وغالباً ليس عن طريق دوافع واعية- بل بالأكثر- عن طريق دوافع لاواعية. وهو بالتأكيد ينتج صورة عن العالم تختلف بشكل كبير عن [الصورة التي ينتجها] التفكير الموجَّه الواعي. ولكنْ ليس هنالك أساس حقيقي للافتراض بأنّه ليس أكثر من تشويه للصورة الموضوعية للعالم، لأنّ السؤال يبقى مطروحاً عما إذا كان الدافع الداخلي اللاوعي بشكل رئيسي، والذي يقود عمليات الهوام هذه، هو نفسه حقيقة موضوعية.”[x] الحقيقة الموضوعية التي يشير إليها يونغ عنا تعني الخبرات البشرية المتراكمة في اللاوعي الجمعي عبر الأزمنة السحيقة والمدفونة تحت “عتبة الوعي”.[xi]
هذا اللاوعي الجمعي بحسب تعريف يونغ هو “جزء من النفس Psyche والذي يمكن تمييزه بصورة سلبية عن اللاوعي الشخصي بحقيقة أنه ليس كالأخير يدين بوجوده إلى الخبرة الشخصية، وبالتالي لا يكون اكتساباً شخصياً. وبينما يكون اللاوعي الشخصي ناتجاً بشكل أساسي عن محتويات كانت واعية في وقت ما ثم اختفت من الوعي بسبب نسيانها أو كبتها، فإنّ محتويات اللاوعي الجمعي لم تكن قطّ ضمن الوعي، ولذلك فهي لم تُكتسب بشكل فردي، ولكنه يدين بوجوده بشكل حصري إلى الوراثة. وفي حين يتألف اللاوعي الشخصي في معظمه من عُقَد complexes، فإنّ محتوى اللاوعي الجمعي مكوَّن بشكل أساسيّ من نماذج بدئية Archetypes.” [xii] وبالتركيز على هذه النماذج البدئية يقدّم يونغ في مقالته “أهداف العلاج النفسي” تعريفاً آخر لهذا اللاوعي الجمعي بأنّه “نشاط نفسيّ لاواعٍ موجود في جميع الكائنات البشري، وهو لا يُنشئ صوراً رمزية اليوم فحسب بل كان المصدر لكل نتاجات الماضي المماثلة لها.”[xiii]
وكتابات يونغ جميعها مليئة بأمثلة من دراسته للأساطير والأدب الخيميائي عن حقيقة السلوك “الموضوعي” للنماذج البدئية أي الـ archetypes التي تجد لنفسها تمثلات واضحة في القصص الشعبية وفي الأساطير والأديان. وليس الهدف هنا نفي تاريخانية بعض الشخصيات والأحداث أو تأكيدها، فهذا مجال علوم الآثار والتاريخ. ولكن غاية يونغ هي دراسة الفاعليات النفسية التي تتمثّل فيها هذه النماذج البدئية، ولذلك فهو يميّز على سبيل المثال بين “الإله” الميتافيزيقيّ وبين الإله “النفسانيّ”. كما أنّه يحاول تقديم نوع من التفسير لسبب تكرار هذه القصص من ناحية أولى، والأهم تفسير سبب تأثيرها العميق في النفس البشرية والحياة الروحية، وأيضاً في بعض الأمراض النفسية، بما يساعد الشخص على فهم أعمق لذاته من جهة ومحاولة إعادة هذه المحتويات غير الواعية إلى حيز الوعي بالطريقة التي تساهم في سدّ نقاط الضعف وفجوات الكينونة، إن صح التعبير. هذه المحاولات التفسيرية لا تتوقف عند التحليل النفسي للأفراد بل تتجاوزهم إلى فهم الجماعات البشرية. وعلى الصعيد الشخصي يؤكد يونغ على أنّ “الإدراك المستمر للهوامات fantasies واختبارها يُخضع الوظائف اللاواعية الدُّنيا إلى الذهن الواعي- وهي عملية ليست بطبيعتها من دون تأثيرات عميقة على الموقف الواعي.”[xiv] هذا الإخضاع يقلّل بشكل تدريجي من هيمنة اللاوعي على الشخصية ويحقّق تحولات مهمة فيها.[xv]
على ضوء هذه المثنوية في أنماط التفكير، يبدو النكوص الجمعي نحو الماضوية الذي تختبره الجماعات- والأفراد كذلك- نوعاً من محاولة إخراج عمل الفعاليات النفسية التخييلية والهوامية إلى حيّز اللغة عن طريق عملية تفكير موجَّه مزيّفة. فبدل أن تجد هذه الفعاليات النفسية البالغة الأهمية مكاناً لها في اللغة الشعرية وتكوين الأساطير التي تبقى تخت عتبة الوعي الكامل بل تعمل كنوع من الطاقة التي لا تنضب للانطلاق عبر التاريخ- بدل أن تفعل ذلك تحاول- إن صحّ التعبير- أن تقتحم “العالم النثريّ”. وهكذا تبدأ مشاعر الدفء والحميمية التي يشعر بها الشخص نحو حالة ما أو أسطورة ما تحاول أن تحاكي أسلوب التفكير الموجَّه المنطقي والعقلاني لتخرج من حيث الصورة شبيهة بالنظريات السياسية أو الاجتماعية في حين أنها مجرَّد إسقاط لغويّ لصورة لاواعية. ويمكن على سبيل المثال فهم محاولة هتلر في بناء “الرايخ الثالث” على هذا الأساس؛ فهتلر نطق بلسان اللاوعي الجماعي الألماني الذي ما يزال يحلم بصورة الرايخ (الإمبراطورية الرومانية المقدسة التي انتهت عام 1806 والتي شكلت إمبراطورية شارلمان بكل ما يحاك حول مؤسسها من أساطير أساسها الأول، ثم الإمبراطورية الألمانية الثانية التي انتهت عقب الحرب العالمية الأولى ولم تعمّر إلا بضعة عقود). لقد حاول أن يخرج عملية الهوام تلك من حيز الصور والمشاعر الداخلية، التي كانت تحد لنفسها مكاناً في الشعر والفولكلور، إلى عالم مبنيّ على تفكير موجَّه مزيّف قائم على وعي مزيّف تسيطر عليه بصورة كبيرة مكونات اللاوعي، أي إنه يستعمل بشكل صوريّ فقط اللغة السياسية والنظرية الفلسفية ولكن من دون محتوى واقعيّ حقيقي. وبدل أن يتم استدماج هذه الطاقة النفسية في مشروع عقلانيّ من خلال إخراج الصور العشوائية في اللاوعي الجمعي إلى حيّز العقل لتحقيق الذات Self الوطنية، كان هتلر يبدو وكأنّه تجميع لجوانب الظلّ shadow كلها في أمّته فجرّ الأناوات الفردية والأنا الوطنية للخضوع لهذا الظلّ بدل أن يكون العكس، لأنّ “الشعب الألماني ما كان ليقع تحت تأثير هذا الشخص ويُستَلَب إلى هذا الحد لو لم يكن هذا الشخص يعكس صورة عن الهستيريا الألمانية الجماعية.”[xvi]
ويمكن في الواقع ردّ كل الدعاوي نحو إعادة بعث الإمبراطوريات والممالك القديمة إلى دوافع باطنية شبيهة، وخاصة عند ظهور الأعراض الهستيرية وإسقاط صفات الظل، أو الجانب المنحط من الشخص أو الأمة، على أطراف خارجية بصورة مستمرّة تتصف بالتركيز الوسواسي.
إن هذا التفكير الماضوي ليس مجرّد حادثة عرضية، بل هو، على المستويين الفردي والجماعي، عبارة عن إساءة لاستخدام مَلَكة جوهرية وعميقة الضرورة للنفس البشرية. فالأسطورة كما ذكرنا سابقاً ليست، بحسب يونغ، نكوصاً طفلياً من حيث المبدأ، فهي “مرحلة متوسطة طبيعية ولا غنى عنها بين اللاوعي والإدراك الواعي.” عملية الأسطرة هذه تمهيد لتحقيق التكامل في الفرد والجماعة وصولاً إلى الجنس البشري ككل؛ فإذا كان للبشرية قدر ما أو هدف أسمى فهو لن يتم من دون مستوى من التجانس المعرفي بين جميع عناصرها وأعضائها عبر مسيرة التاريخ. ولهذا يدّعي يونغ أنه “فقط هنا، في الحياة على الأرض، حيث تتصادم المتناقضات، يمكن للمستوى العام للوعي أن يرتفع. وهذا ما يبدو أنه مهمة الإنسان الميتافيزيقية- والذي لا يمكن له تحقيقها من دون ’فعل الأسطرة‘”.[xvii]
ولكن هذا التوصيف المثنوي للتفكير ولاستعمال اللغة قد يدفع بنا إلى مأزق آخر، وهو مأزق “الوضعية المنطقية” Logical Positivism التي يمكن أن تدّعي أن استعمال المفردات ينبغي أن ينحصر فقط في التعبير عما يمكن الإشارة إليه بشكل مادّي وفيزيائيّ ملموس أو بشكل يمكن اختباره بشكل فعلي. وهذا قد يفضي إلى ازدراء الآداب والخيال والتعبيرات الروحانية في الكتابة وكل ما لا يجد له مدلولاً في حيّز الملموس. ولكن هذا المأزق لن يكون جديراً بالتناول الجدّيّ في هذا الموضع إلا إذا تناسينا تأكيد يونغ على مركزية الخيال للوجود البشري، وتنبهنا إلى أنّ مواضع الخطر فيه تكمن فقط عند محاولة استعمال الأسطورة وعوالمها الشعرية كبديل كلّيّ عن العالم الملموس وكوسيلة لمراكمة القوة السلطوية والهيمنة ونفي الإنسان الآخر بدلاً من مراكمة معارف الجنس البشري وتطبيقاتها في فهم الذات أولاً والسلام والتفاهم والانسجام مع الآخر ثانياً. وهذا الخطر قائم في حالة استغلال الأسطورة تماماً كما هو قائم في محاولة استغلال نتائج التفكير الواعي الموجَّه.
على هذا الأساس يتبيّن أن الهوامات fantasies بما فيها الرغبات الدفينة المنبعثة من تصورات ماضويّة الطابع هي استدعاءات جديدة للإنسان لكي يعيد تناول ما نسيه أو تناساه أو كبته أو غض النظر عنه، بشكل فردي وجماعي، في ضوء جديد. فالتقدم البشري على مختلف الأصعدة لم يحصل دائماً على أساس بناء متين على نتائج الماضي بل حصل على شكل قفزات أو استطالات مختلفة الطول من نواة لم يتم بعد استيعاب كل مكوناتها. هذه الخيالات إذن هي دعوة لاستدماج تلك الصور والقفزات ضمن ملكة التفكير الموجَّه العقلاني، ليس لاستخراجها كما هي في الصورة حرفياً إلى حيز الواقع، بل لفهمها رمزياً واستيعاب مدلولاتها بشكل أفضل من قبل؛ وهكذا يمكن للتفكير الموجَّه أن يستقبل صورة “بيت الطفولة” (بكل تطبيقاته التي قد تعني أحياناً “الأمة” أو “الوطن”) ليس لكي يبكي على أطلاله أو يسعى إلى استعادة صورته الماضية كما كانت، بل لكي يرى في هذه الاستعادة التخييلية دعوةً لتقدير الحميمية والحبّ والاجتماع مع الآخر، ودعوة أيضاً للتبحر في النفس والتصالح مع جونبها المظلمة واستعادة ما يمكن استعادته من معانيها وليس بالضرورة من أشكالها. إن الحنين إلى صورة ماضوية هو حنين إلى الأم بما هي رمز للاحتواء أولاً، وبما هي- في المخيلة- رمز قد يشير إلى التحرر من الفردانية والعودة إلى الكلّ الكامل. فالطفولة إذ هي تابعة غير مستقلة، إلا أنها أيضاً تجسّد عهد “حرية” الذهن قبل بروز الوعي الناقد الذي يتعرض لصراع الأضداد. إن الحلم ببيت الطفولة ليس مجرد اشتياق لجدران وساكنيها (لأنه قد يُستعاد هذا البيت بالفعل ضمن نطاق الزمان والمكان ولا يُؤتي مع ذلك النتيجة النفسية المرجوة، فتتضاعف غربة الشخص) بل هو حلم بحالة الانسجام الكلي والحرية من صراع الأضداد. وهكذا يمكن إذن للإنسان أن يفهم دعوة هذه التصورات له، وهي البحث من جديد عن الانسجام النفساني والحرية، ليس في عهد ما قبل الصراع النفسي أي في فترة ما قبل الوعي هذه المرة، بل بما يتجاوزها وما يتجاوز الوعي بها، أي نحو انسجام مع الكل الكامل بالإرادة والرغبة الواعية، أي وفق حركة ديالكتيكية تجمع الطرح القديم (النعيم الطفليّ اللاواعي) ونقيضه (حالة صراع الأضداد) للوصول إلى التآلف الجديد (الانسجام الواعي الناجم عن استدماج الظلّ في الأنا وبناء الذات).
هذا الاستدماج للصور الماضوية أمر بالغ الأهمية من منظور يونغ، وهو يشرح أنّ “التقدم والتطور مثالان لا يمكن رفضهما باستخفاف، ولكنهما يفقدان كل معنى إذا وصل الإنسان إلى حالته الجديدة كمجرد شظية من نفسه، تاركاً خلفه المنطقة الجوهرية الخفية في ظلّ اللاوعي، في حالة من البدائية أو بالأحرى الهمجية. إنّ الذهن الواعي، وقد انقطع عن جذوره، ليس قادراً على إدراك معنى حالته الجديدة، يرتدّ بسهولة تامة إلى حالة أسوأ بكثير من الحالة التي كان يهدف التجديد إلى تحريره منها…!…فكل ما قد تم التغلب عليه وترك في الخلف من خلال ’التقدم‘ يغوص أعمق وأعمق في اللاوعي، حيث في النهاية تعود للانبثاق منه الحالة البدائية التي هي التماهي مع الجمهور. وعوضاً عن التقدم المتوقع تصبح هذه الحالة [البدائية] واقعاً.”[xviii]
لأجل هذا يميز يونغ أيضاً بين المخيلة الفعالة والمخيلة السلبية؛ فالأولى تقوم على توجيه الانتباه إلى صور المخيلة أو الهوامات بطريقة توقّعية. وتشرح المحللة النفسية الأمريكية جوان تشودوروف أنّ “هذه الحالة من الجهوزية تأتي بطاقة جديدة ووعي جديد إلى المادة الخام المنبثقة من اللاوعي…ومن خلال هذه العملية يتأثر اللاوعي وتتوضح الصور وتصبح أقرب إلى الوعي.”[xix] أما الموقف السلبي من الصور التخيلية فهو أن يقف الشخص أمامها جامداً؛ “فالهوامات [في هذه الحالة] لا تُستدعى، بل تطوف من دون أن تتم ملاحظتها، أو تندفع إلى الوعي من دون دعوة.” وتوضح تشودوروف أن الخطر في هذا الموقف يكمن في أنّ الشخص يمكن أن يُضحي تحت سيطرتها، فيتماهى المرء مع خيالاته أو أحلامه أو مزاجه. وهذا يؤدي إلى اللا استقرار النفسي وفي حالات أخرى يصل الأمر إلى الذهان أو الفصام.
ويؤكد يونغ على أنّ هذا الفحص للصور و’مهامها‘ يتعدى أحياناً ما يمكن أن نفهمه على صعيد الوعي الراهن؛ فهي قد تحمل للشخص غايات تتجاوز الوعي نفسه وتكون على مستوى نفسه ككلّ، بمعنى أنها يمكن أن تكون، على سبيل المثال، أداة لشفائه على مستوى أعمق مما تستطيع الأنا أن تلاحظه. وعلى المستوى الخارجي يلفت يونغ النظر إلى المسؤولية التي قد يلقيها فهم الصور الخيالية على عاتق الإنسان:
“إنه…خطأ فادح أن نظن أنه من الكافي أن نكتسب فقط بعض الفهم للصور وأن المعرفة يمكنها أن تتوقف عند هذه المرحلة. النظرة المتفحصة فيها يجب أن تتحول إلى التزام أخلاقيّ. الامتناع عن هذا الأمر يعني أن يقع المرء ضحية مبدأ القوة، وهذا ينتج تأثيرات خطرة مدمرة ليس للآخرين فحسب بل للشخص العارف نفسه. إنّ صور اللاوعي تضع على عاتق الإنسان مسؤولية جسيمة. والفشل في فهمها أو التملص من المسؤولية الأخلاقية يجرّد المرء من كلانيته ويدخل حياته في حالة تشظٍ مؤلمة.”[xx] فالإنسان مدعوّ للعمل على الجوانب المكتَشَفة في نفسه، وعلى ظلّه الذي يسعى للتخفّي من خلال إسقاطه على الآخرين والاندفاع نحو قتالهم أو إبادتهم. وهذا ينسحب أيضاً على الجوانب المظلمة من النفس الجمعية للكتل البشرية والجماعات الوطنية والدينية والثقافية التي يدفع بها عدم الالتزام الأخلاقي بالسعي أولاً إلى اكتشاف عالمها النفسيّ بشكل جدّيّ من خلال النقد الذاتي والجرأة على الاعتراف، ومن ثم بالعمل على إخراج العناصر الخفية إلى النور من خلال المؤسسات العقلانية والعلم الحقيقي ودمجها بشخصيتها الواعية، يدفع بها عدم الالتزام هذا إلى الحروب والكوارث والتفكّك والاضمحلال بأقسى الأشكال والصور.
[i] يستعمل مترجمو يونغ اللفظ الإنكليزي fantasy وليس phantasy للتعبير عن الهوام. وبحسب معجم مصطلحات التحليل النفسي لجان لابلانش و ج. ب. بونتاليس (ترجمة د. مصطفى حجازي) فإنّ المصطلحين الإنكليزيين يستعملان للتعبير عن “الهوام” بينما ينفرد ثانيهما بالتعبير عن “الهوام اللاواعي” في التحليل النفسي الفرويدي، علماٌ أنّ كليهما يقابلان المصطلح الألماني phantasie. (انظر الصفحات 573- 578).
[ii] C. G. Jung, Symbols of Transformation, trans. F. F. C. Hull. From the Collected Works of C. G. Jung, Vol. 5, (Princeton University Press, 1990), 12.
[iii] Ibid., 13.
[iv] Ibid., 16.
[v] Ibid., 17.
[vi] Ibid.
[vii] Ibid., 18 (footnote 20).
[viii] Ibid., 28.
[ix] Ibid., 24-25.
[x] Ibid., 28.
[xi] Ibid., 29.
[xii] C. G. Jung, The Archetypes and the Collective Unconscious, trans. F. F. C. Hull. From the Collected Works of C. G. Jung, Vol. 9, Part 1 (Princeton University Press, 1990), 42.
[xiii] C. G. Jung, Modern Man in Search for a Soul, trans. W. S. Dell & Cary F. Baynes (London: Kegan Paul, Trench, Trubner & CO LTD.), 82.
[xiv] Joan Chodorow, ed., Jung: On Active Imagination (Princeton, New Jersey: Princeton University Press, 1997.), 66-67.
[xv] Ibid., 66.
[xvi] انظر كارل غوستاف يونغ، النازية في ضوء علم النفس، ترجمة نهاد خياطة (بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1992)، 48 و77.
[xvii] C. G. Jung, Memories, Dreams, Reflections (Stellar Books, 2013), 311.
[xviii] Jung, The Archetypes, 174-175.
[xix] Chodorow, ”Introduction,” Jung: On Active Imagination, 6.
[xx] Jung, Memories, 192-193.
للاشتراك في مثاقفات: اعرف المزيد.
مقالة جميلة تلفت الانتباه لأمور كثيرة لا ننتبه لها عادةً، وتقدم تفسيرات معقولة يمكن التفكير فيها ومراجعتها بينما تطوف في الذهن.
شكراً لك يا راء :) علم النفس التحليلي الذي أسسه يونغ أحد أهم الثورات الحديثة في هذا الحقل المعرفي على الرغم من التحديات العديدة التي واجهها ويواجهها والطبيعة الشديدة التعقيد لكتاباته. ولكن قراءته المفصلة، هو وتلاميذه، لدلالات الأساطير والأحلام ولغة الخيميائيين القدماء، لا بل والنصوص الأدبية، تبقى من أهم ما أنتجه القرن العشرين في مجال الدراسات النفسية.
أسعد بقراءتك!
شكرا :)
لفت نظري أيضا الجملة التالية: “في حين أن التفكير الهوامي أو الحلميّ تفكيراً اجترارياً أو نسخياً.”
فيها الكثير من المنصوبات، لماذا؟ :)
هذا خطأ. اعتقد أن هناك كلمة محذوفة من قبلي بالخطأ، يعني يجب أن تكون “في حين أن التفكير…يٌعتبر تفكيراً اجترارياً أو نسخياً”.
أتذكر أنني صغت هذا الجملة عدة مرات.
الآن عدت إلى السياق:
“ولكن يونغ يعارض جيمس في اعتباره التفكير الموجَّه منتجاً في حين أن التفكير الهوامي أو الحلميّ تفكيراً اجترارياً أو نسخياً. ”
فالجملة إذن تقديرياً “ولكن يونغ يعارض جيمس في اعتباره التفكير الموجَّه منتجاً في حين أنه [يعتبر] التفكير الهوامي أو الحلميّ تفكيراً اجترارياً أو نسخياً.”
ولكن لست متأكداً أن الحذف بهذه الطريقة صحيح. الحذف مسألة ليست هينة.
صحيح. أحيانا نقرأ الجملة في باطننا بطريقة ونكتبها بطريقة أخرى دون أن ننتبه. يحدث هذا كثيرا خصوصا إذا كانت المقالة طويلة ومعقدة كحال هذه المقالة.
نعم، على أن الحذف بهذه الطريقة ممكن نحوياً. لست متأكداً مئة في المئة أن جملتي هذه بالذات ممكنة- يجب أن أفكّر بالأمر. ولكن بالعموم جمل تشبهها ممكنة بل ولا غنى عنها. نقول على سبيل المثال:
“قرأتُ الكتابَ وأحمدُ المخطوطةَ”.
صحيح. موضوع الحذف والتأويل والتقديم والتأخير موضوع واسع جداً، لكنه ممتع أيضا.
شكراً مرة أخرى على المقالة، أعجبتني الأفكار التي طرحتها. تستدعي التفكير حقاً.
نعم في غاية الإمتاع حقيقةً :)
شكراً جزيلاً لك. يسعدني ذلك. ^_^