بقلم فادي أبو ديب

اليوم 26 آذار 2021…
أستمع للمرة الأولى (حسب ظني) لأغنية “أيها الراقدون تحت التراب” للموسيقار محمد عبد الوهاب، والتي أخبرني هو عنها منذ حوالي 30 عاماً أو أقل قليلاً وقال حينها إنه لن يدعني أسمعها لأنها حزينة جداً ومجلبة للكآبة. الآن يخطر في بالي أنّه ربما لم يُرِد أن يسمعها لأنها تذكره بشيء ما لا يصرّح به، أو ربّما كنوع من ’الإجراء التربوي‘ المناسب لطفل لا ينبغي له أن يسمع عن الموت بهذه الطريقة التراجيدية. لم يخطر في بالي من قبل أنّه إنسان مثل غيره من البشر وأنه ومن دون شكّ عرضة لهجومات الذكريات والتي قد تكون معلّقة بأغنية مثل هذه. لعلّني أعرف شيئاً عن هذا وأحاول أن أتصنّع عدم معرفتي!
ذكّرته بها اليوم فحزِن، ولكنني حاولتُ حرف الموضوع قليلاً عن الأغنية وأخبرته أنها ليست حزينة لهذه الدرجة، لا بل إن أغنية “من غير ليه” لعبد الوهاب نفسه حزينة أكثر. وهي بالفعل تثير القلق الوجودي حتى للّذين يعتقدون أنه يعرفون سبب الوجود على هذه الأرض. اللحن العظيم مع الكلمات التي تقول:
جايين الدنيا ما نعرف ليه
ولا رايحين فيه ولا عايزين إيه
جايين الدنيا ما نعرف ليه
ولا رايحين فين ولا عايزين إيه
مشاوير مشاوير مرسومة لخطاوينا
نمشيها في غربة ليالينا مشاوير
…إلخ
يوم تفرحنا يوم تجرحنا
وإحنا ولا عارفين ليه ليه ليه…
اللحن مع هذه الكلمات وما يليها مدة حوالي 40 دقيقة هي ملحمة وجودية رائعة لإنسان يتفكّر في الدنيا ويخاطبه حبيبته خلال الحركة الموسيقية التالية:
حبيبي…(عود)
حبيبي…(عود)
كل ما فيك يا حبيبي حبيبي…
كل ما فيك يا حبيبي حبيبي…
..إلخ
وكأنه عثر أخيراً على سبب وجوده وكأن صوت الفرح الرصين والواثق يقول إنّ أسئلته الماضية لم تعد حاضرة الآن؛ غابت في أفق القدر المفتوح لتوه.
***
فاجأني بقوله إنه لا يتذكر كلمات “من غير ليه”. لا يتذكرها؟! وهي الأغنية التي كانت هدية من أعز أصدقائه تحتل لوحدها شريط كاسيت كاملاً. كيف أنسته الأيام الطويلة كلمات الأغنية التي كان يحبها ويسمعها برفقتي؟ هل ينسى الإنسان أجزاء من نفسه مع الوقت؟ أم يغادرها طواعية ويتناساها لكي ينسى معها فرحاً وأياماً دافئة صار تذكّرها أكثر إيلاماً من نبذها وتناسيها؟
منذ سنوات قرّرت أن لا أستمع إلى “من غير ليه” إلا نادراً وفي مناسبات خاصة كي لا تدخل ذكراها القديمة حيّز الاعتياد وتبقى الصور القديمة ملتصقة بها أبداً. وهذا ما صغته لاحقاً في “نصيحة إلى شاعر يافع” بشكل آخر: “احتفظ دائماً في منزلك بعطور خاصة لا تقترب منها إلا في مناسبات معينة كي لا تصبح جزءاً اعتيادياً من مخيلتك.من الأفضل أن يكون جزء على الأقل من هذه العطور ليس من اختيارك الشخصي.”
حتى هذه اللحظة، لا أجد من داعياً لكي أتخلّى عن هذا الجزء الحميم منّي.
الأشياء دائماً ما ترتبط بالمشاعر؛ لا شيء سيجعلها عادية إلا أن تتلاشى المشاعر التي كانت هذه الأشياء تستمد قيمتها منها، ولا شيء سيعيد لها قيمتها إلا أن تعود المشاعر التي ارتبطت بها حية في دواخلنا.
هي أشياء لا يمكن التحكم بها مع الأسف، والأمر مرهون بالكامل للمشاعر الإنسانية التي لا نملك أن نغيرها.
أحيانا، وأقول أحيانا، يحاول الإنسان الحفاظ على مشاعر معينة تجاه أشخاص أو أشياء لأنه يحس بأن سماحه باندثارها شيئا فشيئا وتحولها إلى حيز العادي هو أمر سيمس إنسانيته وقدرته على الوفاء لما أحب يوما، أو لأنه لا يريد التقليل من قيمة المشاعر التي عاشها في وقت معين.
بالفعل يصعب أن نتخيل بشريتنا من دون ذكريات. وكأنها المادة الفعالة في عالمنا الداخلي لحظة بلحظة.
قام بإعادة تدوين هذه على غنوص المحبة.