بقلم فادي أبو ديب
لا أعرف إذا كانت السماء قد انفتحت أمامي في طفولتي، او انها كادت تفعل ذلك ثم تراجعت في اللحظة الأخيرة. المهم هو أنني ما زلت أشعر أنّ شيئاً ما كان في بيتي الداخليّ ومضى يتوارى عني رغم قربه؛ هل كنت سأشعر بكل هذا الفقد لو انفتحت فعلاً امامي؟ أم أن سبب هذا الشعور هو أنني بالفعل كنت على تماس مع عالمس ما قبل أن يبدأ بالاضمحلال والتلاشي فبتّ أحسّ به ولا أستطيع وضع يدي عليه؟ هل يكفي لترتيب بيتنا الداخلي أن نحتفظ بصور قديمة فقط نعلقها على جدرانه، أم من الضروري أن تكون أيضاً محاطة بغشاء رقيق من الثقة بأنّ هذه الصور ما زالت كما هي؟ هل نحتمي بالصور نفسها أم بمعرفتنا بأنّ حقيقتها الخارجية، جغرافيتها الملموسة، ما زالت بعيدة عن أيدي العابثين؟
لعلّ السبب إذن هو أنّ الحكومة قررت تأميم المساحات القديمة التي كانت تلعب فيها مخيلتي لتبني جمعيات سكنية أمام شرفة بيتنا القديم- جمعيات سكنية بيضاء قبيحة بنتها اللصوصية أو حتى النوايا الحسنة، قبل أن تكمل جريمتها ببناء مكعب إسمنتيّ هائل خلفها.
كنت ألعب فيها وأنا واقف في مكاني في منزلنا المشرف عليها، وليس فقط فيها حين كانت الفرصة تسنح للنزول إلى الوادي. وكنت أرسم بالبخار نوافذ داخل النوافذ لكي أتلصص على الشتاء والربيع والصيف في العالم الأخضر الدائم الممتد بلا وجل نحو البحر الأزرق والذهبي والرمادي والنحاسيّ اللون، بحسب الفصل واليوم والساعة.
لم يكن ذلك العالم حديقتنا الأمامية التي لم نمتلك فيها شبراً واحداً يوماً ما فحسب، بل كان أيضاً الحديقة الأمامية لله ولمنزله الذي كنا نتمتع أحياناً بأنواره ليلاً وحين تغيب الكهرباء عن الحيّ العالي فيغدو كلّ شيء أزرق رمادياً والناس تتحرك كالأشباح أو كأنّها تقبع تحت مياه خفيفة جداً أتت من الأفق البعيد أو خرجت من الأرض. كان يعيرها لنا متى أردنا، لنا جميعاً نحن الذين سكنّا بقربها لعقود وقرون، وكنا نسير فيها جماعات جماعات، وهذه عادة ماتت ونُسِيت قبل أن تُسرَق الحديقة العملاقة تلك.
اللصوص سرقوها إذن ونحن رحلنا. والله كعادته وديع لا يقاوم- ونحن مثله- فترك الرياض لهم ينقبون فيها كما يشاؤون، وتركني أنا أعيد استعمارها في رأسي من دون أن أضع بصري عليها مجدداً، وترك في قلبي قلقاً عميقاً من أن يكون الخطف والاغتصاب مصير كل الجنائن، وخوفاً دفيناً من أن أكون بشكل ما سبباً لكل ما يحصل.