أيّام حلب (1- استشارة موسيقية)


بقلم فادي أبو ديب

كنّا عائدين أنا وصديقي من محل التسجيلات الذي يقع في بداية “شارع القوتلي” حيث اعتدنا أن نمرّ كلّ فترة لنشتري بعض الغرائب الموسيقية القديمة والجديدة. وبحسب العادة كنا نقطع عائدين المسافة القصيرة التي تفصل المكان عن “ساحة سعد الله الجابري” ثم نمشي بمحاذاة “الفندق السياحي” وصولاً إلى بداية أحد الشوارع التي تخترق حيّ العزيزية، لندخل بعدها إلى الحيّ.
وكنّا في ذلك الوقت بمزاج غريب بعض الشيء. من جهتي كان الحرّ صيفياً بامتياز، ولكن النسيم لم يترك الجوّ قائظاً خانقاً كما هي العادة، بل كان يليق بمدينة ساحلية في وقت مهرجان، وخاصة مع رائحة شواء البسكويت الحلو المخصّص للبوظة التي تملأ الشوارع المحيطة بمتجر الحلويات القريب.
في ذلك الشارع كنا نمرّ دائماً من جانب مطعم قديم مقفل، يشغل طابقاً أرضياً ينزل إليه الزائر بدرجات قليلة من الشارع. كنت أحبّ شبابيكه وخلفها نباتات الزينة الاستوائية الصناعية، وتثيرني ألوان بعض مما تبّقى من ديكوره القديم التي تبرزها أضواء الشارع؛ مجموعة أدوات نحاسية اللون على بعض الطاولات، لوحات مخملية معلّقة على الحائط برسوم مجرّدة وسوريالية غريبة يبدو أنها تحمل روح الستينات أو السبعينات أكثر مما تنتمي إلى زمننا الراهن، وما يبدو أنّها أطراف ثريّات قديمة من ذلك النوع المنقرض (بحسب رأيي آنذاك) ذي الأحجار الكريستالية المتعددة الأوجه. في كلّ مرّة أمرّ من جانب هذا المطعم مساءً كنت أشعر بأنّ أبي وأمّي كانا هنا يوماً ما. خاطر خياليّ تماماً، لأنّ والديّ لم يزورا المدينة مطلقاً. وفي إحدى المرّات وكنت أمشي ذاهلاً عن الضجيج من حولي، وقفت أمام المكان المقفل وكلّي ثقة أنني أنتظر حافلة للسفر، لا بل وأشّرت بإصبعي إلى حافلة مارّة قبل أن أعود إلى نفسي، وأنا أتبسّم للسائق وأعتذر منه، وأشكر الله أنّ الناس لا تقرأ الأفكار وأنّ لا أحد يعرفني على أيّة حال، على مبدأ أنّ البلاهة في وسط غرباء عابري سبيل نادراً ما تضرّ.
في أيّة حال، لم يكن باب المطعم هذه المرة مقفلاً، وقد لاحظنا أنا وصديقي هذا الأمر وتساءلنا. لم نستطع مقاومة الفضول فنزلنا الدرجات واقتربنا من الباب، وكان يصل إلينا من الطرف البعيد في الداخل ضوء أصفر متوسط القوة تبيّن أنّ مصدره مصباح محمول على ساق خشبية ومغطى بخيمة صغيرة من القماش نصف الشفاف. وعلى الطاولة بقرب المصباح جلس رجلان صامتان، أحدهما كان يعبث ببضعة أشرطة كاسيت في يده، يقلّبها ويقرأ ما عليها، وينظر إلى الآخر بين الفينة والأخرى بنظرات لوم وخيبة. آ ثرنا أنا وصديقي الانسحاب بسرعة قبل أن أسمع من خلفي صوتاً ينادي: “إنت أبو الجاكيت الأسود!” (وأنا لا أستطيع تقليد لهجته تماماً!) التفتّ مستغرباً وأشرت بسبّابتي اليمنى إلى صدري من دون أن أنطلق ولو بكلمة، كتلميذ في الصف الثالث الإبتدائي تتهمه المعلّمة بكبيرة من الكبائر. فقال “نعم نعم، حضرتك، تفضل لو سمحت!”
توجّهت نحوه والدهشة تتملّكني إلى درجة أنّني لم أنتبه جيداً لمحتويات المحلّ المفتوح الذي لطالما تمنّيت أن أدخله. وصلت إلى طاولة الرجلين، وكان محدّثي رجلاً يبلغ حوالي السبعين، أما الآخر فكان في نصف سنّ الأول تقريباً ويبدو عليه التململ. رأيت بجانبه شريطاً لمحمد عبد الوهاب وآخر لفرقة أوروبية أو أمريكية لم أتبينها وشريطاً لشادية ومثله لمحمد فوزي وأما في يده فكان يحمل أحد كاسيتات فرقة البي جيز. سألني بلا مقدمات: هل تعرف هذه الفرقة…؟ أجبت بالإيجاب، ابتسم، وقال: جيد، وفّرت عليّ أن أحاول مع صديقك. ثم تابع، “هل هذا آخر ألبوم لهم؟”، أجبت لا، هذا ألبوم عام 97. لديهم ألبوم آخر صدر في عام 2001. نظر إليّ بمزيج من الفرح والشماتة وأشار إلى جليسه الشابّ: “قلّو للمعلّم! شفت يا أستاااذ! شغلك مو تمام!” ثم التفت إليّ مجدّداً “مشكور حبيبي!”
حين هممت بالعودة، استوقفني مجدداً ومدّ يده إلى درج الطاولة، عبث ببعض المحتويات، ثم مدّ يده إليّ بعلبة: “افتحها لو سمحت!” فتحتها وانا أنظر إليه: “كانت تحتوي على شمعة صغيرة رائحتها تشبه البخور، وعلبة صغيرة تبدو مثل علب الصابون التي يوزعونها في الفنادق. قلّبتها في العلبة…كانت الرسوم عليها مثيرة؛ فعلى الوجه الأول كان وجه فرعون داكن البشرة، أما على الوجه الآخر فكان يوجد رسم لأهرامات ولكنها لا تشبه أهرامات الجيزة المعروفة. وكان في العلبة أيضاً حجر أخضر داكن وحجر خمريّ اللون بنفس حجم الأول تقريباً، يبدو كأنهما كانا جزءاً من ديكور أكبر، وكان يوجد أيضاً “شكلة” رفيعة من تلك التي تستعملها النساء في تثبيت الشعر، ولكنها ليست مصنوعة من البلاستيك بل كانت معدنية الملمس. وأخيراً صورة صغيرة لمنظر بحريّ، تبدو عليها علامات القدم، إلى درجة أنّ البحر يظهر كما لو أنّه في فيلم من أيام بداية ظهور التلفزيون الملوّن، ولكن الزمن محا المكتوب على الصورة بحيث أصبح غير قابل للقراءة.
نظرت إليه متسائلاً، فقال بسرعة “هذه لك… هديّة. الله معك!” وأشار بيده بنفاد صبر. لم أستطع السؤال أكثر، ولكنني لم أستطع أيضاً مقاومة المنظر البحريّ، فسألته عن الشاطئ الذي في الصورة، فأجاب “بكرا بتعرف لوحدك… لا تخاف!”
خرجت مسرعاً، ولكن في طريقي للخارج لاحظت أنّ الجدران مزيّنة بعدّة صور فرعونية الطابع، ولو أنّها كانت تترك شعوراً بعدم الانتظام…كان مع ذلك شعوراً بالغ اللذة… وكأنني كنت أمضغ قطعة حلوى من موقع سياحيّ لا أعرفه تماماً ولكنه ليس غريباً كلياً أو كأنني أنتظر أحداً ما أكاد أعرفه جيداً.
خرجت إلى صديقي، فعاجلني بأسئلته الكثيرة، ولكنني أخبرته أن الرجل كان بحاجة إلى “استشارة موسيقية”، وهذا كلّ ما في الأمر. ولكن يدي كانت في جيبي، ولم تكفّ عن العبث بمحتويات العلبة الصغيرة.
منذ بضعة أيام يتولّاني شعور ملحّ بأنني اكتشفت هوية المدينة، وربما هوية المتعلّقات الأخرى التي أعطاني إياها الرجل منذ حوالي خمسة عشر عاماً.

الإعلان

22 comments

  1. جميلة، والجزء الذي يحكي قصة “أبو رزوق” أجمل. استمتعت فعلا بقراءته. السرد سلس جدا ومؤثر.

    • شكراً جزيلاً😊 يسعدني ذلك. أحاول قدر المستطاع أن أحتفظ بالنصوص بسيطة لتحاكي الذكريات ولا تنخرط بالوصف الفني، مع أن الموضوع مغر!

  2. حسب الوصف!
    مسألة الوصف أكثر مسألة معقدة في الكتابة لأنه، في حال عرف الكاتب كيف يقدمها كما يجب، ترفع العمل الأدبي جدا، لكن مع الأسف معظم الوصف الذي نقرأه في الروايات العربية مبتذل مكرر وسطحي.
    لا أعرف شيء ما يدفعني لذلك الاعتقاد.

  3. نعم أعتقد أنه من الصعب إدخال الوصف كثيرا في النصوص المنشورة على مواقع التواصل. الناس يريدون المختصر المفيد نوعا ما. لكن بكل الأحوال النص جميل.

    هل النص هنا يشير للاسكندرية؟

    • ليس فقط هكذا، ولكن الوصف على جماله يظهر الموضوع اصطناعياً أحياناً.

      لماذا تظنين أنها الاسكندرية؟😌

    • حدس…سبحان الله😊 على كل حال النص لا يذكر للأسف، وما عنا نصوص أخرى تساعد.
      بس ممكن يكون الإسكندرية😌

    • يعني هاد السمايلي بيعطي مرات شعور أنو معناه “خلص اتطمنت”. بس غير مرات بيعطي شعور مختلف ما بعرف شو معناه بالضبط.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.