مفهوم “المحاكاة” عند المفكّر الهندي هومي بابا
قراءة في العلاقات الكولونيالية ومقاربة للخطاب التحرري العربي المعاصر
فادي أبو ديب
(مسودة المقالة الواردة في العدد الرابع من مجلة “مثاقفات”، صيف 2021)
(1)
يُعتَبَر مفهوم المحاكاة[i] mimicry الذي نظّر له المفكّر والناقد الهندي هومي بابا في سياق الدراسات ما بعد الكولونيالية واحداً من أهم المفاهيم في هذا المجال؛ فقد ساهم في مقاربة جديدة لقراءة العلاقة بين الاستعمار والشعوب التي كانت واقعة تحت سيطرته، وبشكل خاص من الناحية النفسانية سواء أكان ذلك على مستوى الفرد الواحد [وهنا لا نستعمل مفهوم الفردية إلا في النطاق المعجمي وليس في مدلولاته الفلسفية الغربية] أم على مستوى الجماعة أو “الدولة” الجديدة التي نالت حريتها الشكلية من الاستعمار- هذه الناحية النفسانية بوصفها ناتج بنىً معيّنة خُلِقت في الدولة المستعمَرة سابقاً أو فُرِضت عليها من قبل المستعمِر كما يرى بابا. ويعتبر سانجيف كومار أنّ مفهوم المحاكاة هذا يُفهم في سياق الدراسات ما بعد الكولونيالية على أنّه “عمليات محاكاة مُربِكة تميّز الثقافات ما بعد الكولونيالية. إنه رغبة في قطع الأواصر مع ’الذات‘ في سبيل التحرّك نحو ’الآخر‘.”[ii]
وفي مستهلّ مقالته الشهيرة عن هذا المفهوم “عن المحاكاة والإنسان: تأرجح الخطاب الكولونيالي”،[iii] يقدّم بابا تصوّره الأوّلي لمفهوم المحاكاة باقتباس من جاك لاكان في كتابه “المفاهيم الأربعة الرئيسية في التحليل النفسي” الذي يرى أنّ المحاكاة mimicry “تكشف شيئاً ما إلى الحد الذي يكون فيه متمايزاً عمّا يمكن تسميته الشيء في ذاته الذي في الخلف an itself that is behind. إنّ نتيجة المحاكاة هي التمويه. …المسألة ليست عبارة عن انسجام مع الخلفية ولكن مع خلفية مبرقشة [مموَّهة]، أي عبارة عن صيرورة [المُحاكي] مبرقشاً، تماماً كتقنية التمويه المستخدَمة في الحروب البشرية.”[iv] ويتابع بابا مشيراً إلى أنّ خطاب المحاكاة مبنيّ كله حول تأرجح أو ازدواج وجدانيّ[v] ambivalence لأنه ليكون فعلاً وذا أثر حقيقيّ ينبغي على هذه المحاكاة أن تنتج انزلاقها الخاص وإسرافها واختلافها.[vi] هذا يعني أنّ عليها أن تترك في خطابها ثغرات معينة تمكّن مطلقها من الالتفاف عليها، تماماً كما يفعل مشرّع فاسد يكتب قانوناً فيه من الثغرات ما يكفي لاستخدامه وقت الحاجة بالطريقة التي يرتجيها منه. وهو ما يعبّر عنه بابا بقوله إنّ المحاكاة الكولونيالية هي الرغبة في خلق ’آخر‘ Other مُصلَح وقابل للتمييز بوصفه “موضوعاً لاختلاف يكون نفسه تقريباً، ولكن ليس تماماً.”[vii]
ويشير الباحثان جولييت لي أويتانلت وغودفري هارولد إلى أنه يمكن ملاحظة ثلاث سمات للمحاكاة: الأولى هي أنّ المحاكاة “نتاج رغبة يكوّنها المستعمِر عند المستعمَر” والتي تتمحور حول نوال الأخير قبول الأول لكي ينظر إليه بندّية؛ والثانية أنّ المحاكاة لا تنجح أبداً في إنتاج صورة طبق الأصل عن المستعمِر، لأنها دائماً صورة ناقصة في نظره- مجرّد محاكاة؛ أما السمة الثالثة فهي أنّ المحاكاة غارقة في علاقة حبّ-كراهية مبهمة مزدوجة، وهي دائماً في حالة من اللايقين.[viii] فما يعنيه بابا حين أكّد على أنّ خطاب المحاكاة الاستعماري ينتج انزلاقه الخاص أو ما يمكن أن نسمّيه “قلقلته الخاصة” وإسرافه واختلافه، هو أنّ ما ينتجه الإفراط في المحاكاة هو بالضبط عكس المرجوّ؛ وهنا يمكن أن نفكّر في مثال بسيط: حالة شابّ يفرط في تقليده لممثلي السينما، أو فتاة تسرف في وضع الماكياج على وجهها لكي تشبه نجمات التمثيل والغناء. هذا الإفراط أو الإسراف هو بالتحديد ما يجعل عملية التقليد فاشلة بامتياز؛ هذا بالضبط ما يؤكّد على اختلاف المُحاكي والمُحاكى ويبيّن أنّ الشرخ الذي بينهما لا يمكن رأبه. فالمحاكاة هنا وهمية، إنّها اختلاف لا ينفكّ يتسع كلما حاول التأكيد على مماثلته للآخر، لا بل إنّ جوهر الاختلاف هنا يتمثّل في الإسراف. وكما يشرح الباحث ريتشي ويفر فإنّ الذي يقوم بالمحاكاة “عالق في فخّ حضور يتراوح بين تماثل غير تامّ not quite sameness واختلاف غير تام not quite difference، وهو منفصم بشكل دائم في حالة مستمرة ومحمومة من الانزلاق بين شبه التماثل/ شبه الاختلاف، وفي حالة مفاوضة مستمرة.”[ix]
هذا ما يسمّيه بابا أيضاً بالحضور “الجزئي” للمستعمَر. هذا الجزئيّ حضور “افتراضي” virtual وغير مكتمل. ويتخذ بابا من السياسي البريطاني والمسؤول الكبير في شركة الهند الشرقية، تشارلز غرانت (1746-1823)، مثالاً على ذلك؛ فغرانت اقترح للهند نظاماً إصلاحياً وفق الأخلاق المسيحية، ولكنه إصلاح “جزئي” يقوم على إدخال تحسينات “جزئية” على النظام الأخلاقي الموجود من دون أن يصل الأمر إلى جعل الهنود يطالبون بالحرية بما يقضي على النظام الطبقي الموجود والسلطة الاستعمارية.[x] أي إنّه سعى إلى نوع من “الاقتداء بالأخلاق الإنكليزية التي سوف تحثّهم على البقاء تحت حمايتنا.”[xi] ويتابع غرانت في وثيقته بأنّ كل الإجراءات المقترحة هي سبيل أن تكون السلطة البريطانية “دائمة وآمنة” permanent and secure، لأنّه “لا ينبغي أن نتمنّى أن تزول التمايزات بين العِرقين.”[xii] فالهنود كان يجب أن يكتسبوا هيئة إنكليزية (أن “يتأنكلزوا”، إنّ صح نحت الكلمة بهذه الطريقة!) to be Anglicised لا أن يصيروا إنكليزاً English بالفعل.[xiii]
ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى جانب آخر من مفهوم المحاكاة كما يطرحه بابا، ألا وهو مفهوم التهديد menace؛ وهذا التهديد ناشئ من طبيعة خطاب المحاكاة الاستعماري، لأنه لا ينبغي فهم هذا الأخير على أنّه مجرّد علاقة اعتمادية بين المستعمَر والمستعمِر. بابا يؤكد على هذه الناحية بصراحة، فهو يلفت نظر قرّائه إلّا أن المحاكاة ليست مرادفاً للاعتمادية التي ينتظر فيها المستعمَر ما بمنحه إياه المستعمِر؛ فهنالك فارق نفسانيّ-هويّاتيّ مهم. يشرح بابا هذا الفارق كم يلي:
“ما دعوته بالمحاكاة ليس هو الممارسة المألوفة لعلاقات التبعية الاستعمارية من خلال التماهي النرجسي، بحيث، كما لاحظ فانون، يتوقف الإنسان الأسود عن كونه شخصاً فعلياً لأنّ الرجل الأبيض وحده يمكن له أن يمثّل قيمته الذاتية. المحاكاة لا تخفي أي حضور أو هوية خلف قناعها…إنّ التهديد الذي تشكّله المحاكاة هو رؤيتها المزدوجة double vision التي في كشفها لتأرجح ambivalence الخطاب الاستعماري تقوم أيضاً بخلخلة سلطته.”[xiv]
فالمستعمَر الذي يقوم بالمحاكاة ليس كياناً يحاول إخفاء ذاته في عملية مدروسة من أجل أن يبقى تابعاً ومعتمداً على المستعمِر من أجل تحصيل بعض المنافع. المحاكاة لا تفسح المجال حتى لهذا النوع من التماهي “النرجسي”،[xv] بل هي تفكّك الهوية الأصلية من دون أن تزوّد الكيان المستعمَر بالبديل. وهنا يتضح أكثر مفهوم الانزلاق جيئةً وذهاباً بين حالتَيْ شبه التماثل وشبه الاختلاف، حيث إنّ المحاكاة ليست إخفاءً لهوية معينة خلف قناع يؤمّن كما يظن المتواري خلفه وجوداً أفضل، بل محاولة للسحق الكامل للهوية- أو لتغيير الجلد (!)- التي تطبّق بشكل واعٍ من طرف المستعمِر وتكتسَب بشكل لاواعٍ من قِبَل المستعمَر.
في مقابل هذه المحاكاة التي تطبع السلوك اللاواعي لقطاعات واسعة من الشعوب المستعمَرة، والتي تنبّه لها الكثيرون من المفكّرين والمناضلين ضد الاستعمار والهيمنة الإمبريالية اللاحقة، يبرز الموقف التوفيقي الواعي الذي يحاول السلوك بانتقائية في مجال تعامله مع ثقافة المستعمِر. هذه الوسطية يمكن أن نجدها في مواقف كثيرٍ من المناضلين ضدّ الاستعمار ’القديم‘ في المنطقة العربية، ممكن كانوا يكافحون لتحرير بلادهم من الاستعمار مع المراهنة على تبنّي أجزاء كانوا يعتبرونها إنسانية وثقافية من ثقافته. ولكن الأبرز في مقابل المحاكاة هو الدعوة إلى نوع من القطيعة مع ثقافة المستعمِر والتي يمكن أن تتخذ عدة درجات، أبرزها الماضويّة الصريحة، من جهة، والموقف المُحاكي للماضوية مع افتقاره للمخزون الماضوي الذي يمكن العودة إليه، من جهة أخرى.
(2)
تتمثّل الماضويات الصريحة إما في الدعوات الدينية السّلفية الواضحة أو في النزعات الإثنية والقومية الشوفينية. هذه الماضويات والنزعات هي ما يطلق عليه أزراج عمر “المقاومة النكوصية”، حيث يصوّر هذه المقاومة بأنّها “الانسحاب إلى الماضي البعيد في صورة حنين غير واع وجارف لاستعادة أمجاد مندثرة ورمزيتها متعددة الأشكال، وكذلك تدفعنا بقوة للتعلق المستميت مجددا بأذيال عناصر ومواقف تراثية متخلفة مثل نموذج الخلافة الكلّي وذلك باسم حماية الهوية من الصدمة الأجنبية العنيفة، أو رجعية مثل نموذج دول الطوائف.”[xvi] إنّها نمط من التطهير Catharsis [من اليونانية، بمعنى “التطهير” أو “التنقية”] المعروفة في النزعات الدينية المتشدّدة التي يمتلئ التاريخ بأمثلة عنها.
أمّا الموقف الآخر المُحاكي للماضوية، أي الموقف النكوصيّ المتأرجِح، فهو شكل من المقاومة لا يُشتَرَط فيه أن يستعمل الخطاب الديني المألوف أو يطالب باستعادة مجدٍ ماضٍ أو خلافة مندثرة أو بتطبيق الشريعة الدينية [الإسلامية في حالة العالم العربي]؛ هذا الموقف يفتقر للعمق التاريخي أو المخزون الجمعي الذي يمكن استعماله في حشد الجماهير، ولكنه مع ذلك قادر على استعمال مزيج من الخطابات المناهضة للاستعمار التي تمتزج فيها الدعوات القومية بالدعوات للمحلّية، بقراءات مستمدّة أساساً من مزيج نادر من الحركة اليسارية العالمية المعاصرة المعادية للأورومركزية والخطاب اليميني العالمي الجديد؛ ففي الخطاب التحرّري العربي الجديد، على سبيل المثال، يمكن ملاحظة هذه الروح التطهّرية التي تستعملها الخطابات الماضوية الصريحة، والتي تندفع بشكل محموم إلى التخلّص إلى كل ما يلمّح ولو من بعيد إلى الثقافة الاستعمارية المهيمنة أو يرتبط فيها بشكل جوهري أو غير ذلك، ومن حيث استعمال خطاب إسخاتولوجيّ (أي مهدويّ من شكل معيّن) يحيل على المستقبل الذي تتحقّق فيه بشكل أو بآخر- تصريحاً أو ضمنياً- عملية التنقية الكاملة من أدران ’الآخر‘. وفي نظر الباحثين في عالم الفكر الباطني يبدو هذا الخطاب مألوفاً جداً؛ فالتطهير، الجسدي عن طريق التقشف والفكري عن طريق نبذ الأفكار’الأخرى‘ التي لا تؤكّد موضوع الإيمان وتشوّش عليه، ضروري للوصول إلى مرحلة الاستنارة illumination الذي يرتبط بالتقدم في الحصول على المعارف الضرورية غير المتاحة للعامة.
إنّ دعاة “المقاومة النكوصية المتأرجحة” يؤكدون دائماً، كالنكوصيين، وبمفردات وأساليب متعددة على خطاب “إما طريقتنا في السير على الدرب أو عدم الاشتراك في السير أبداً”، فهم لا يؤكدون فقط على ماهية الدرب، بل يصرّون على أسلوب معين من السير عليه؛ فالآخر لا يمكن له أن يسير على الطريق لأنه لم يستنر بعد لأنّه لم يتطهّر بعد. وقبل كل عملية تطهير هناك مرحلة استنارة أولية بدئية، ضرورية لكي يقتنع الإنسان ويسعى إلى التطهير. لقد حصلوا على هذه الاستنارة، كما في حالة الحركات الدينية النكوصية، ولكن بطريقة علمية/ فكرية لم يستطع الآخرون التوصّل إليها لأنّهم بالضرورة غارقون في مستنقع الهيمنة. المقاومة النكوصية والأخرى المحاكية لها لا تطلب النضال ضد الاستعمار فحسب، بل تطلب نبذ أفكار كاملة ومفردات كثيرة وأشكالٍ كثيرة أخرى من النضال التي استعملها مناضلون سابقون غير نكوصيين، أي أصحاب الموقف الانتقائي أو التوفيقي. إنّهم يرون في هؤلاء التوفيقيين جزءاً من منظومة الهيمنة ومناضلين غير حقيقيين؛ فكلّ ما يذكّر بالمهيمن منبوذ مهما كانت فيه من منافع: آداب وفنون وأفكار تغيير ونضال لأجل المرأة ولأجل العمّال ولأجل منع جرائم الشرف وأي شخص أو جهة أو كيان أو حزب لا يتمترس خلف خطاب القطيعة الكاملة مع الغربيّ.
المقاومة النكوصية مقاومة “أولويات”، وإنسان الحاضر في نظرها، كما كان عند الشيوعية القديمة بحسب نقد الفيلسوف الروسي نيكولاي برديايِف، وسيلة لأجل إنسان المستقبل- الإنسان الذي لن يبزغ فجره مطلقاً لأنّه موضوع لفلسفة تقدّم أبديّ يشكل المستقبل محرّكها وليس الحاضر.[xvii] المقاومة النكوصية التطهّرية، الصريحة والمُحاكية لها، هي، ويا للمفارقة، مقاومة عودة إلى الخلف في تأكيدها على المحلّيّ والقديم والماضويّ، ولكنها في عين الوقت مقاومة هروبٍ إلى الأمام، نحو القمّة، قمّة التطهير الموجّه نحو آثار ’الآخر‘، رغم أنها تؤكد في نفس الوقت على عدم أولوية ولا جدوى التطهير الداخلي بحجة أن التطهير مرتبط بالهيمنة.
هذا الفرع المموَّه من المقاومة النكوصية يعتبر أنّ المحاكاة المفروضة من قِبَل المهيمِن مفهوم ذو حتمية شبه بيولوجية، بمعنى أنّه لا يمكن نهائياً إدخال أي تعديلات عليها أو تحسينها أو الانتصار على عيوبها. يمكن فقط مراقبتها أو السعي لتفكيكها. هذا التفكيك هو ما يجعل “نكوصية” هذه المقاومة مشكوك بها ويمنحها هويتها المُحاكية المذكورة آنفاً؛ فالتفكيك دليل على السعي للتغيير بناءً على التفاعل مع الحاضر والموجود والواقعي من دون استجلاب خطابات ماضوية أو غيبيات بدائية، إلا أنّ هذا الاعتراف بالواقع يفتقر لأي برنامج عمل حقيقي وواقعي، فكيف يتم تفكيك بنية المحاكاة الأصلية التي فرضها الاستعمار؟ لا توجد خطة حقيقية، لأن أي مسعى للتغيير يبدو هنا في نظر هذا المقاوم تسليماً بمفردات البنية الاستعمارية، وأيّة محاولة للثورة على هذه البنية هو أيضاً خضوع للمهيمن الذي يحرِّك كل البنية بكل ما فيها: أي الدولة ورعيّتها، أي الناس الذين ضمن نطاق سلطتها، وكل تجمّع ممكن أن يقوموا به أو نشاط يتحرّكون من خلاله ضمن بيئتهم الحالية.
عند هذه النقطة يصل هذا النوع من المقاومة إلى أكثر منعطفاته العبثية على الإطلاق، التي تُظهِر أنه هو نفسه ضحية عملية محاكاة mimicry للمقاومة النكوصية للحركات الدينية، التي لا يستطيع أن يتماهى معها وفي نفس الوقت لا يستطيع أن يتبنى الانتقائية التوفيقية مع المستعمِر. إنه يكوّن ضحية انزلاقه slippage الخاص الذي يجعله عالقاً بين شبه التماثل مع بنية الهيمنة التي فرضها الاستعمار نفسه وذلك من خلال عدم رغبته في المسّ بها لأنه عملياً يتماهى معها ’تقريباً‘، وبين شبه الاختلاف عنها لأنه بالفعل غير راضٍ عن وجود هذه البنية بوصفها صنيعة الاستعمار، ولكنه مختلف عنها ’تقريباً‘ أي ’ليس تماماً‘، بحسب تعبير هومي بابا. هنا تدخل هذه المقاومة- كما نرى في سوريا ولبنان على سبيل المثال- في حلقة مفرغة مكونة من اندماج قوسين يعبّر كل منهما عن مقولة مضادّة للأخرى: الأولى تقول إنّ المستعمِر فَرَضَ بنية الدولة العربية الحديثة [أو شبه الدولة عملياً] وهي بالتالي صنيعته، والثانية تقول إنه لا يجوز المسّ بها تغييرياً لأنّ أي دعوة للتغيير ليست أولوية وهي ما يريده المستعمِر بالذات لكي يحافظ على البنية الرئيسية ويشغل الناس بفتات التغييرات هنا وهناك؛ فهو الذي يستثمر في التحركات الشعبية، لا بل يخلقها ويوجهها، حيث إنّ جميع دعوات هذه الحراكات الشعبية مَبنيّة في النهاية على مطالبات “أورومركزية” تصبّ في خانة تعزيز الهيمنة الاستعمارية والإمبريالية. هنا بالذات يظهر أنّ مصطلح “النكوص” ذاته لا يناسب هذا الخطاب التحرري الجديد، فهو نكوصي ولكن ’ليس تماماً‘ وتحرّري ولكن ’ليس تماماً‘. إنّه في ذاته يمارس المحاكاة mimicry للحركات النكوصية السلفية الحقيقية؛ وهو ضحية الانزلاق slippage الذي يكوّنه هذا المهيمِن الماضويّ الداخلي [أي الخطاب التراثي النكوصي الحقيقي] بين شبه التماثل وشبه الاختلاف؛ فهذا الخطاب صادق ’تقريباً‘ في معاداته للاستعمار ولكنه لا يلبس الخطاب النكوصي كقناع من أجل منافع معينة، وهو لا يتماهى نرجسياً معه، بل يدخل معه في علاقة إبهام وتأرجح وجدانيّ ambivalence، فهو ماضويّ ولكن ليس إلى درجة الخطاب السلفي، ولكنه في نفس الوقت لا يمكن له أن يكون تقدمياً تماماً رغم أنه مبنيّ على أساسات فكرية وجدلية اقتصادية، لأنّ التقدّمية معناها التماهي مع الأورومركزية وبالتالي مع الفكر الإمبريالي. هذا الخطاب التحرّري الجديد ليس كسلفه التقليديّ، يسارياً كان أم قومياً عروبياً، تقدميّ في نظرته للتاريخ ومن حيث أنه مستند على فكر أوروبي المنشأ جزئياً أو كلياً، ولكنه أيضاً ليس محلياً تماماً. إنه بالفعل عاجز عن التفريق- ضمن عالم الأفكار والفلسفة- بين ما هو كونيّ من حيث حقيقته وبين ما هو بالفعل يمثّل الهيمنة، وهذا موضوع آخر لا يمكن مناقشته في هذه المقالة بل يتطلب بحثاً معرفياً توضع على أساسه أولويات معينة تساعد في تحديد ما يمكن اعتباره قيمة مرشَّحة للقبول على نطاقات واسعة [من دون أن تشكّل سردية كبرى غير قابلة للتغيير والتعديل بالضرورة] وبين ما يتضح أنّه نتاج سياق محلّيّ تم فرضه خلال التاريخ على العالم ككل من دون مبرِّر. لا ريب أن الخطاب التحرّري الجديد قادر أكثر من غيره على تشخيص العديد من مشكلات المجتمع العربي حالياً، ولكنه من دون شكّ أيضاً ضحية للمحاكاة- محاكاة السلفية النكوصية هذه المرة، من دون أن يمتلك زخمها وعمقها الوجدانيّ والمِخياليّ من جهة، ومن دون أن يكون قادراً على الحركة إلى الأمام من جهة أخرى. إنّه كالواقف في بيداء خالية، فلا هو يرضى الركوب مع القوافل الذاهبة ولا هو يرضى أن يعود مع العائدين إلى حيث كانوا جميعاً في البداية، بل يراهن على قافلة مارّة تقبل أن تضعه في مركب السيد وتذهب به حيث يريد هو، من دون أن يفسّر أبداً لماذا على زعيم هذه القافلة الجديدة أن يذعن له ولماذا سيكون مختلفاً عن غيره.
[i] آثرت ترجمة المصطلح mimicry إلى “محاكاة” وليس “تنكّر” كما في الترجمة العربية للمصطلح، والواردة في كتاب “موقع الثقافة” من ترجمة ثائر ديب وإصدار دار المجلس الأعلى للثقافة في القاهرة؛ فالتنكّر ممارسة قد يقوم بها المرء لإخفاء شخصيته الحقيقية بأي وسيلة كانت، في حين إن المحاكاة هي إخفاء أو تمويه للشخصية ولكن في اتجاه معين وهو مشابهة شيء أو شخص آخر. وهذا هو المعنى الوارد في قاموس كامبريدج، حيث يرد أنّ هذا المصطلح يعني ” فعل استنساخ أصوات أو سلوك شخص أو حيوان معيّن…”.
[ii] Sanjiv Kumar, “Bhabha’s Notion of ‘Mimicry’ and ‘Ambivalence’ in V. S. Naipaul’s Bend in the River,” Researchers World: Journal of Art, Science & Commerce, Vol.– II, Issue –4, Oct. 2011, 119.
[iii] من اللافت ما يؤكده الباحثان أويتانلت وهارولد بأنّ بابا في مقالته هذه (Of Mimicry and Man) يحاكي عنوان الرواية الشهيرة للكاتب الأمريكي جوان ستاينبك “رجال وفئران” (Of Mice and Men).
Juliet Lee Uytanlet, Godfrey Harold, ”Mimic Me: Mimicry, Colonialism, and Christianity,” Pharos Journal of Theology, online Vol. 101 (2020), 4.
[iv] Homi Bhabha, ”Of Mimicry and Man: The Ambivalence of Colonial Discourse,” October, Vol. 28 (Spring, 1984), 125
[v] التأرجح ambivalence هو بحسب قاموس “لغة التحليل النفسي” عبارة عن “الوجود المتزامن لميول أو مواقف أو مشاعر متناقضة في العلاقة مع موضوع واحد، وخاصة تواجد الحبّ والكراهية معاً.”
Jean Laplanche & Jean-Bertrand Pontalis, The Language of Psychoanalysis, translated by Donald Nicholson-Smith (London: Karnac Books, 1988), 26.
[vi] Ibid., 126.
[vii] Ibid., 126. من المهم هنا ملاحظة استخدام لفظ ’الآخر‘ مبتدئاً بحرف كبير، وهذا له دلالته في فلسفة لاكان، بالتباين مع ’الآخر‘ الذي يبدأ بحرف صغير.
[viii] Uytanlet & Harold, 4.
[ix] Richey Wyver, Almost the Same, but not Quite”: Mimicry, Mockery and Menace in Swedish Transnational/-racial Adoption Narratives (Malmö: Malmö Institute for Studies of Migration, Diversity and Welfare (MIM), Malmö University, 2017), 15.
[x] Bhabha, 127.
[xi] Charles Grant, “Observations on the State of Society among the Asiatic Subjects of Great Britain,” Sessional Papers 1812-13, Ch. 4, p.104, East India Company, in Bhabha, 127.
يمكن الاطلاع على هذه الوثيقة على هذا الرابط:
https://www.wmcarey.edu/carey/grant/104.jpg
[xii] نفس الوثيقة السابقة (غير مقتبس في مقالة بابا).
[xiii] Bhabha, 128.
[xiv] Ibid., 129.
[xv] التماهي النرجسي هو نوع من التماهي الثانوي بحسب التحليل الفرويدي الذي يتماهى الشخص مع شخص آخر فقده أو انقطعت العلاقة به. وعلى عكس أنواع أخرى من التماهي التي يساوي فيها الشخص بشكل لاواعٍ بينه وبين آخر أو يذوب في ضخية الآخر من خلال تقليده (تقليد الطفل اللأب)، ولا يتخذ شكلاً عدوانياً، على العكس من ذلك، يكون التماهي النرجسي موجّهاً تجاه شخص أو كيان يكنّ له الشخص مشاعر مبهمة ومتضاربة.
للمزيد يمكن مراجعة:
Siegfried Zepf, “Modes of Identification: Freud’s Concepts Reorganized,” The Scandinavian Psychoanalytic Review, 32:1, 46-47.
[xvi] أزراج عمر، “تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي،” صحيفة العرب، عدد الأحد 26-1-2014، يمكن الوصول على المقال من هذا الرابط: https://alarab.co.uk/%D8%AA%D8%AD%D9%88%D9%84%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%83%D8%B1-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B1%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A
[xvii] انظر مقالة برديايف المعنونة “الشخصانية والماركسية”.