بقلم فادي أبو ديب
(مجلة مثاقفات، العدد 6، 2022)
في مواجهة الليبرالية والحداثة
ظهر اسم الفيلسوف والمفكّر الروسي ألكسندر دوغِن (1962- ) خلال السنوات الماضية كمرادف لدور جديد لروسيا ما بعد الاتحاد السوفييتي، وبشكل رئيسي لروسيا ’البوتينية‘، وأيضاً بوصفه داعيةً لعالم جديد متعدّد الأقطاب ينبذ نموذج الليبرالية الغربية المعولَم، ويبشّر بظهور “أوراسيا”، وهو مفهوم ثقافي وجيوسياسي يتمركز حول روسيا ومحيطها الحيوي. وفي هذه المقالة، التي بدأتُ بكتابتها قبل أشهر من بداية الحرب الحالية على أرض أوكرانيا، سأحاول تقديم نقد لبعض المفاهيم والمبادئ الرئيسية الواردة في كتاب دوغِن “النظرية السياسية الرابعة”.[1]
يرى دوغِن أنّ الليبرالية اتخذت في بداية القرن الحادي والعشرين قرارها بإزالة السياسة تماماً (ص 11)، وهو يفسّر هذه الرؤية باعتبار أنّ الليبرالية أفلست بعد هزيمة جميع أعدائها، وتحديداً الفاشية والشيوعية، فظهرت وكأنها النظام الطبيعي والبديهي للحياة، أو برزت بالأحرى كأسلوب حياة (وليس مجرّد خيار سياسيّ) يتمثل في الاستهلاكية والفردانية وما بعد الحداثة التفكيكية (ص 12). هذا الواقع يجعل من الصعوبة بمكان تخيّل بديل للّيبرالية أو نمط حياة مختلف أو جديد، فالسياسة ببساطة انتهتَ، وما تبّقى مجرّد انتظار لأمر مجهول، دوران في المكان واستهلاك مملّ لمنتجات استهلاكية جديدة، بما في ذلك الأفكار. يصف دوغِن من لا يتفقون مع الليبرالية بأنّهم “يجدون أنفسهم في وضع صعب- فالعدو المنتصر قد انحلّ واختفى، وهم الآن باقون ليصارعوا الهواء. فكيف يمكن للمرء أن ينخرط في السياسة إذا لم يكن هناك سياسة؟” (ص 12) ولذلك فالحلّ في نظره هو رفض جميع النظريات السياسة الكلاسيكية، المنتصرة منها والمهزومة، والعمل على تأسيس نظرية جديدة. وهكذا تكون “النظرية السياسة الرابعة” دعوة إلى ما يتجاوز النظريات الثلاث القديمة: الليبرالية والشيوعية والفاشية. كما يطلق دوغِن على نظريته بشكل ثانوي “البلشفية الوطنية” و”الأوراسيّة” (ص 197).
ولكن الفيلسوف الروسي ينبّه إلى أنّ هذه النظرية الرابعة “ليست عمل مؤلّف واحد بل هي اتجاه يؤلّف طيفاً واسعاً من الأفكار والأبحاث والتحليلات والتنبؤات والمشاريع. فكلّ من يفكّر ضمن هذا التوجّه يمكن أن يساهم بأفكاره.” (ص 13) هذا التوجّه ليس مجرّد محاولة لابتكار أمر جديد، بل هو مسألة حياة أو موت (ص 14)، لأنّ روسيا المستقلة وذات الهوية الأصيلة والرسالة التاريخية بحاجة ماسّة إلى نظرية سياسية جديدة.
وفي تباين مع الشيوعية التي تجعل الطبقة الاجتماعية موضوعها الرئيس أو فاعلها التاريخي، ومع الفاشية/ النازية التي تجعل الدولة أو العرق هو هذا الفاعل التاريخي، تركّز الليبرالية كما يراها دوغِن على الفرد “الذي يتم تحريره من جميع أشكال ’الهوية الجمعية‘ وكل أنواع ’العُضوية‘” (ص 18). هذه “الحرية من…” يعتبرها دوغِن “صيغة العبودية الأكثر إثارةً للقرف، بقدر ما تُغوي الإنسان للتمرد ضد الله وضد القيم التقليدية، وضد الأسس الأخلاقية والروحية لشعبه.” (ص 155)
ولكن ضمن هذه العبارة الأخيرة يجمع دوغِن أمرين قد لا يجتمعان بهذه السهولة المفترضة؛ فالتمرّد على الله وقيم وثقافة الشعب ليسا أمراً واحداً كما قد يبدو الأمر للوهلة الأولى. وبالعودة مثلاً إلى تراث الأديان، والمسيحية بشكل خاص بما أنّ دوغِن تحديداً ينتمي إلى أحد فرقها الصغيرة في روسيا (ينتمي إلى إحدى شِيَع من يعرفون بالمؤمنين القدامى المنشقين عن الكنيسة الأرثوذكسية الروسية)، بالعودة إذن إلى الأديان والمسيحية خاصة، كثيراً ما يُدعى الإنسان إلى اتّباع الله والتمرّد على السائد من ثقافة الشعب الدينية والدنيوية، ولعلّه لسنا بحاجة إلى إيراد أقوال المسيح التي تحضّ الناس على عدم اتّباع السائد آنذاك من ثقافة الشعب ورجال الدين ونكتفي بعبارة “دعِ الموتى يدفنون موتاهم” (لوقا 9: 60)؛ فعلاقة الإنسان بالله من هذا المنظور ليست مرهونة بخضوعه لثقافة الأمة وأخلاق الشعب، إلّا إذا صدق بعض مفكّري الليبرالية الغربية الذين عرّفوا الإله بوصفه صورة للجماعة!
في مواجهة الفردانية
بالإضافة إلى ذلك تظهر إدانة دوغِن للفردانية الغربية تقليدية للغاية ومقتبسة من دون تعديل من إدانة مفكّري العالم الأرثوذكسي لها وأيضاً خالية من أمرين هامّين: الأول هو عدم تمييز الفروقات الثقافية الكبيرة في فهم الفردانية ضمن العالم الغربي؛ والثاني هو فحص الواقع وليس فقط النظرية المتعلقة بالفردانية، بما يشمل ذلك التحقّق من كون الغرب الحالي يؤمن بالفعل بالفردانية وأنّها ليست مجرّد ’مقدّسات‘ أو مثاليات منسيّة في الكتب، تماماً ككثير من مقدّسات الأديان ومُثُلها العليا. وهذا أحد الأمور التي يأخذ بها المتصوف الأمريكي المسلم، وأحد دعاة التقليدانية Traditionalism، تشارلز أبتون، حيث يشير إلى أنّ الفردانية الغربية وتحرير الإنسان من العضوية في أيّ من الجماعات هما أمران مشكوك بحقيقتهما؛ فهو يؤكّد أنّ “العولمة ’تحرِّر‘ بالتأكيد الفرد البشري من العضوية في المتّحدات العضوية التقليدية، من العرق والأمّة والعائلة، ولكنها تفرض في مكانها هوية جمعيّة جديدة متقنّعة بالعضوية في نظام تحكّم مُهندَس واصطناعي يُدعى ’المجتمع العالمي‘ الذي يصبح فيه شكل محدّد من الهوية الرسمية قسرياً بشكل متزايد؛ فالعولمة لا تطلق ببساطة سراح جمهور البشر الأفراد من أقفاصه الثقافية بحيث يمكنهم أن يكونوا أحراراً ومتحرّرين من أيّة هوية جمعية مقيِّدة. هذا مجرّد نص حملة الإعلان والبروباغندا المصمّمة لعولمة النفسيّة الجمعيّة.”[2]
وعلى أيّة حال، فإنّ نظرة دوغِن للفردانية الغربية ليست وليدة الزمن المعاصر بل هي في الواقع نظرة شائعة جداً في العالم الأرثوذكسي الحديث كما أشرنا إلى ذلك سابقاً، ويمكن العثور عليها عند عدد كبير من المفكّرين واللاهوتيين الأرثوذكس من مختلف الجنسيات؛ حيث يشيع بين هؤلاء وضع الفردانية individualism في مواجهة الشخصانية personalism. هذه المواجهة تشكّل ثيمة أساسية عند الفيلسوف الوجودي الروسي نيكولاي برديايف (1874-1948)، والذي لا يمكن على الإطلاق وصفه بالأرثوذكسي المحافظ. فبرديايف يرفض الفردانية تماماً كما يرفض جعل الإنسان مجرّد جزءٍ من مجموع، ولكنه في المقابل يرفع مكانة “الشخص” الذي هو صورة الله ليكون كوناً أصغر microcosm وذا أولوية على المجتمع، لا بل إنّه يعتبر أنه من الخطر الربط بين الإنسان وبين غائية أو حتمية معينة تنال من حريته واختياره الشخصي. يمكن القول إنّ ما يعظ به برديايف هو نمط من الفردانية (في حال الإصرار على استعمال هذا المصطلح الذي يرفضه برديايف نفسه) التي تختار المحبة والتضحية لأجل جماعة من الأشخاص الأحرار، وهو أهم من الشعب والدولة بكل تأكيد.[3] أما دوغِن فيبدو رافضاً لأيّ إعلاء من شأن الإنسان المُفرَد تحت أيّ من التسميات، وهو يرى في الفردانية المطلقة إحدى السمات الرئيسية لعالم “ما بعد الليبرالية” الذي نشأ، ويا للمفارقة، نتيجة انتصار الليبرالية على خصومها (ص 19). هذه الحالة لم تعد خياراً يتّبعه الإنسان بل أصبحت نوعاً من الحتمية التاريخية التي لا خيار سواها (ص 19). ومجدّداً ينتقد أبتون تسليم دوغِن المطلق بما تقوله بعض النصوص الغربية عن مجتمعها من دون أن يشكّك حتى بصوابية هذا الادّعاء أو ذاك، كادّعاءات الفردانية وحقوق الإنسان. فهل المجتمعات الغربية الليبرالية المعاصرة فردانية فعلاً؟ أبتون يجيب بالنفي، وهو يرى أنّ دوغِن في هذا العمل (“النظرية السياسية الرابعة”) فشل في فهم أنّ “الليبرالية قد سبق فدمّرت الفرد، بكلّ معنى من معاني هذا المصطلح، وذلك من خلال قولبة معتقداته/ا ورغباته/ا وتحيّزاته/ا وتطلّعاته/ا ، وبالتالي تحويل هؤلاء الأفراد إلى ما يكافئ المنتجات الاستهلاكية، بينما تزيّف في نفس الوقت صورة هذه البقايا الصّنمية المتغرّبة من الكلّانية البشرية المدمّرة بوصفها علامات على التفرّد الفرديّ وتقرير المصير، لا بل حتى التمرّد على الواقع القائم.”[4]
ومن زاوية أخرى يبدو عدم التحديد الدقيق للمصطلحات وإطلاق العبارات الفضفاضة التي يمكن تفسيرها بأكثر من طريقة أحد الأمور التي تتحدّى قارئ “النظرية السياسية الرابعة”؛ فهل فعلاً تم نبذ “التقليد” (الدين والهرمية والعائلة) منذ “فجر الحداثة modernity” (ص 25)؟ وعلى هذا الأساس كيف يمكن فهم هَرَميّات هيغل، والتنظيرات الأخلاقية القائمة على فكرة الواجب عند كانط، و”لوياثان” توماس هوبز، على سبيل المثال لا الحصر؟ ثم، أين تبدأ الحداثة بالضبط؟ وهل يمكن اعتبار حركات نقد الكتاب المقدس في الجامعات الألمانية نبذاً للدين بالفعل؟
يصرّ دوغِن أيضاً على استعمال لغة تذكّر بلغة اللاهوتيين ورجال الدين المحذّرين من الحركات المسكونية و”الديانة الزائفة العالمية الموحدة” (ص 26). وعلى أية حال يبقى الموقع التاريخي لظهور الليبرالية بالنسبة إليه غامضاً، على الأقل في عدد لا بأس به من المواضع في كتابه؛ فهو يعتبر أنّ النظريات السياسية الثلاث الآنفة الذكر قد تم إنشاؤها كبُنى أيديولوجية مصطنعة على يد أشخاص استوعبوا بطرق مختلفة أفكار نيتشه حول “موت الله” وفكرة فيبر عن “استئصال الدهشة من العالم” وفكرة “نهاية المقدَّس”. وهنا يبرز السؤال الأكبر: هل يطابق الفيلسوف الروسي بين الحداثة والنظرية السياسية الليبرالية؟ وهل الحداثة إذن ظاهرة بدأت مع أو بعد ظهور نيتشه ورواج أفكاره، أي في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين؟ أم إنّه يفرّق بين الحداثة والنظرية الليبرالية؟ ولكن حينها كيف يستقيم الادّعاء بأنّ الحداثة أطاحت بالهرمية والدين والعائلة؟ أليست هذه الإطاحة من ’منجزات‘ ما بعد الحداثة وتيار المودرنيزم وخاصة بعد ثورة 1968 والثورة الجنسية في النصف الثاني من القرن العشرين، أي في زمن نشوء الليبرالية الحديثة كمنظومة اقتصادية مع ما نجم عنها من نتائج اجتماعية؟
يبدو هنا أنّ دوغِن يخلط بطريقة ما بين مفهومين يُعبَّر عنهما بالإنكليزية بالمصطلحين Modernity, Modernism، حيث إنّ الترجمة الإنكليزية لكتابه تستعمل الأولى، في حين أنّ دوغِن يستعمل الكلمة الروسية модерн/modern، والتي تشير إلى اتجاه معين في الفنون ساد في نهايات القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وهو ما يطابق مفهوم المودرنيزم أو مذهب الحداثة modernism.[5] ولكن دوغِن يستعمل أيضاً مصطلحاً آخر يبدو مكافئاُ للمصطلح السابق وهو новое время/novoe vremia، وهو المكافئ لمصطلح new history بالإنكليزية الذي يدلّ على الحقبة التي تلت العصور الوسطى، وبالتالي تكافئ مصطلح الحداثة modernity. ولذلك فهناك التباسات واضحة ومن الصعب حلّها في استخدامه للمصطلحات.
’عقيدة الأقدمية‘ في مواجهة ’عقيدة التقدّم‘
لا يبذل دوغِن الكثير من الجهد في شرح لماذا تستحق الليبرالية كل هذا العناء لهدمها مهما كان ثمن ذلك، بل يكتفي بين الحين والآخر بالتأكيد على شرّها المستطير وعلى فساد ’عقيدة التقدّم‘ إلى درجة أنّه يقول بأنّ القديم جيّد لمجرّد أنّه قديم وإنّه “إذا كنّا نرفض فكرة التقدّم المتضمَّنة في الحداثة (التي انتهت كما رأينا)، فحينها يكتسب كل ما هو قديم قيمة ومصداقية في عيوننا لمجرّد كونه قديماً. ’القديم‘ يعني الجيد والأقدم هو الأفضل.” (ص 28)
ولكن بحسب ’عقيدة الأقدمية‘ هذه يكون التناخ اليهودي (العهد القديم) أفضل من الإنجيل والعهد الجديد الذي يشكّل الرسالة المركزية للمسيحية، كما يكون القانون الروماني أفضل من أيّ قانون معاصر والشريعة الإسلامية أحسن من جميع قيم السلاف الروس (!)، وضمن الثقافة الروسية نفسها تكون الوثنية أفضل وأكثر قيمةً من الأرثوذكسية التي يعتزّ بها الفيلسوف الروسيّ بوصفها تمثل روح الشعب الروسيّ. وإذا كانت ’عقيدة التقدم‘ القائمة على نظرة تعتبر ما تأخّر من التاريخ أفضل وأقرب إلى غايته النهائية مما تقدّم منه، وهي عقيدة انتقدها بشدّة مفكّرون روس مؤسسون للفلسفة الدينية الروسية ومساهمون بشكل أو بآخر في الفكر القومي، مثل فلاديمير سولوفيوف (1853-1900) ونيكولاي برديايف (1874-1948)، وذلك بحجة أنّ التقدم الحقيقي هو فقط المتجه نخو غاية أسمى للتاريخ؛ إذا كانت هذه هي إذن ’عقيدة التقدم‘، فإنّ ’عقيدة الأقدمية‘ التي يناصرها دوغِن (إلى حين، لأنّ ما يقدمه لاحقاً ويطرحه حول فكرة الدازاين يخالف هذا التعلّق بالماضي) ليست أقلّ سطحية وانتحارية من التسليم المطلق لأيّ جديد في العالم بوصفه تقدّماً. وهذه العقيدة لا تنتمي في أيّ حالٍ من الأحوال إلى الفلسفة الدينية الروسية ولا إلى السلافوفيليين (القوميين) الروس الذين دافعوا عن روح الأرثوذكسية بوصفها حقيقة إلهية وليس بوصفها ’عقيدة قديمة‘ تكمن أفضليتها في أقدميتها.
وفي الحقيقة فإنّ مبدأ التقدّم ليس مبدأ نشأ مع الليبرالية على الإطلاق، ويمكن ملاحظته بوضوح في اللاهوت المسيحي الباكر، وفي فكرة “الكشف التدريجي” التي تصوّر كتب “العهد الجديد” بما فيها عقيدة التجسّد الإلهي كمرحلة أسمى وأكثر كشفاً لحقيقة الذات الإلهية من كتب العهد القديم، بحيث يكون التاريخ وفق هذه النظرة متدفّقاً في اتجاه لحظة “ملء الزمان” التي حدث فيها تجسّد اللوغوس الإلهي. وهكذا يفتتح كاتب الرسالة إلى العبرانيين رسالته بقوله: “الله بعد ما كلّم الآباء بالأنبياء قديماً، بأنواعٍ وطرقٍ كثيرة، كلّمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه…” مؤشّراً إلى تقدّم وسائل الكشف عن الحقائق الإلهية وارتقائها بتقدّم الزمن. كما أنّ الرسول بولس يفهم رسالة الإنجيل بوصفها بشارةً تتجاوز ما هو عتيق من المفاهيم والتصورات اليهودية (الرسالة إلى أهل روما والرسالة إلى أهل غلاطية مثلاً). وبمعنى آخر، فإنّ التصوّر التقدّمي للتاريخ (سواء أكان تاريخ الخلاص أم التاريخ الدنيوي بحسب بعض التقسيمات المسيحية) ولانكشاف الأفكار العليا والذات الإلهية موجود في صلب اللاهوت المسيحي الباكر والمتأخر، بما في ذلك تصور ورؤية الكنيسة الأرثوذكسية الروسية للعالم، حتى قبل إصلاحات القرن السابع عشر التي رفضها المنشقون “المؤمنون القدامى”، وذلك بغض النظر عن مقدار ’الرجعيّة‘ التي قد يتميّز بها السلوك الفعلي واليومي لهذا الكيان المؤسساتي الدينيّ الذي هو الكنيسة.
“الحرية من” و”الحرية من أجل”…ولكن الحرية لمن في نهاية المطاف؟
وبالعودة إلى مسألة الفردانية التي تشكّل جزءاً مركزياً وخطيراً من نقد دوغِن للّيبرالية، فإنّ دوغِن يضع هذا المفهوم في مواجهة مفهوم آخر هو “الإثنوس” أو الشعب (حيث يرفض دوغن مفهوم الأمة nation بوصفه مفهوماً غربياً برجوازياً). وهكذا يبدو جلياً أنّ دوغِن لا يتبع النقد الأرثوذكسي التقليدي لمفهوم الفردانية الغربيّة، وبالتالي فإنّه لا يطرح مفهوم “الشخص” بوصفه جزءاً عضواً مبدعاً وحرّاً ضمن مجتمع عضويّ قائم على المحبة والتضحية المتبادلة. كما أنّه يصرّح بضرورة محو الفرد كلّياً وإحلال الثقافة والمجتمع مكانه، وهو بهذا أقرب إلى ما وصفته البطريركية المسكونية في إسطنبول عام 1872 بالهرطقة، وذلك حين رفضت بشكل كلّي أيّة ربط للمسيحية بالإثنية. يبشّر الفيلسوف الروسي إذن بمحو الفرد وإعلاء شأن المجتمع والثقافة، مما يقود تلقائياً إلى احتمال إلغاء “الشخص” بالمفهوم الأرثوذكسي أيضاً، بوصف الأخير أيضاً نوعاً من الفرديّة Индивидуальность/individual’nost’؛ فدوغِن لا يدافع عن الفردية individuality في وجه مذهب الفردانية individualism كما نرى عند نيكولاي برديايف على سبيل المثال.[6] ومع ذلك فإنّ فهو يفرّق بين الفردية individuality و”التفردُن” individuation، حيث يبدو المفهوم الأخير مكافئاً عنده لمفهوم الدازاين من جهة ولما يسميه “الإنسان الأقصى” أو “الأعظم” (homo maximus) من جهة أخرى (ص 53). وهنا يدخل دوغِن في نطاق الفلسفة الوجودية، حيث يصف حرية الدازاين بأنّها تفعيل فرصته في أن يكون أصيلاً authentic في تحقيق كينونته sein (ص 53-54).[7]
ويصرّح الفيلسوف الروسي بوضوح تامّ بأنّ الضربة القاصمة للّيبرالية تكون عن طريق ضرب أعزّ ما لديها، وهو الفرد؛ فهو لا يعترف بأيّة حرية للفرد، بل بالحرية الإنسانية، التي تدلّ على ما يتضح بأنها حرية المجتمع والثقافة ليكونا ما هما عليه. إنّها “الحرية التي يمنحها التمركز حول الشعب” (ص 52)، لا بل إنّها “الحرية لأيّ نوع من الذاتية ما عدا تلك الخاصة بالفرد.” (ص 53) وإذا كان دوغِن يعترف بالحرية من زاويتين: “الحرية مِن…” و”الحرية لأجل…”، فإنّه من الشرعيّ أن يسأل المرء “ولكن الحريّة لمن؟!” فحريّة الشعب والمجتمع هي عبارات وشعارات رنّانة تمتلك وجوداً سيمانطيقياً (أو لفظيّاً ودلالياً)، بينما تعني في الواقع حريّة السّلطة والدّولة التي تدّعي (زعماً أو حقيقةً) أنّها تمثّل إرادة الشعب، وبالتالي يمكن اختزال هذا الشعار المثاليّ إلى “حرية الدولة” أو “حرية قادة الدولة”، وهي بطبيعة الحالة قيادة أوتوقراطية بحسب النموذج الذي يدعو إليه دوغِن؛ إنّها ’حرية‘ أن يفكّر المجموع (أو بالأحرى قيادته) ويملي على الفرد مشيئته، بحيث يصبح الأخير مجرّد شبح لكيان غير موجود، كما يبدو مما يقوله في عمل آخر له، وهو “صعود النظرية السياسية الرابعة”: “نحن نجبرك على فعل ما لا تريد أن تفعله، لأننا نفكّر لأجلك (أو عنك)، ونتحمّل المسؤولية لأجلك (أو عنك)…مهمتنا…أن نجعل قيم المذهب الأوراسيّ كلّيّة وإلزامية للجميع.”[8] ويلاحظ كارل يونغ في عمله “الذات غير المكتشفة” أنّ إزالة حريّة الأفراد في أسفل الهرم الاجتماعي سيؤدّي بالضرورة إلى بروز الفرديّات المتطرّفة في أعلى هذا الهرم، والتي تعبّر عن نفسها بالقيادات الديكتاتورية المتوحّشة.[9]
إنّ ما يُسمّى حرية الشعب أو الثقافة أو المجتمع هو حرية لكيان اعتباريّ يكون ملموساً فقط من خلال حرية الوحدات الأصغر المكوّنة له؛ فحرية المجتمع هي من حريّة الكيانات الأصغر المشكّلة له، من جماعات بمختلف أشكالها وجمعيّات وروابط ثقافية وتيارات فكرية وروحية، وهذه وتلك تتغذّى من حرّية العائلة/ الأسرة والفرد وتغذّيهما أيضاً. ولا يمكن على الإطلاق تصوّر ثقافة حرّة بشكل حقيقي وفعلي قابل للملاحظة من دون حريّة الفرد والشخص الإنساني الذي هو الكيان الوحيد- أو الكينونة الوحيدة- الذي يمكن أن ننسب إليه صفة الوعي الذاتي المباشر الذي بلا توسُّط unmediated والذي لا يمكن إرجاع ما يصدر عنه إلى عمل وحدات اجتماعية أصغر منه. فما الذي تعنيه مثلاً حريّة الجماعة الأدبية من دون حريّة كل فرد من أفرادها في ممارسة الأدب؟ وما الذي تعنيه حرية الثقافة من دون حرية كل فرد من الأفراد، وما الذي تعنيه حريّة الأسرة من دون حريّة أفرادها البالغين على الأقل في ممارسة ما تتجسّد من خلاله هذه الثقافة؟ أمّا اللجوء إلى التسميات الكيانية الفضفاضة وحصر الحريّة بها فهو في أفضل الأحوال لجوء إلى مفاهيم انطباعية أو شعاراتية لا دلالة حقيقية لها، وفي أسوأ الأحوال هو عبارة عن كناية ’أدبية‘ تتضمّن حريّة الاستبداد الممارَس عن طريق أفراد معيّنين في قمة هرم السلطة في ثقافة معينة أو مجتمع معيّن. وإذا بحثنا عن خيار ثالث عدا هذين لا يتبقّى إلّا حريّة جماهير شعب معيّن في الانقياد للدوافع والحاجات والنزوات التي تشكّل مع الوقت الأعراف غير القابلة للنقد أو التكرار المملّ وغير الواعي أو تتفجّر بين الفينة والأخرى في دورات عنفٍ مفترسة؛ فالمجتمع لا يصلح ذاته إلا من خلال عمل الأفراد، المتفاعلين بطبيعة الحال مع محيطهم بشكل مباشر وغير مباشر، ونشاطهم ونقدهم البنّاء وتحدّيهم للركود والتردّي والانحدار وما هو بالٍ من المتعارف عليه والمعتاد. والبديل عن ذلك هو إما الاستبداد النخبوي-العسكري-الأمني أو الفوضى النَّزَوية التي تأتي بالتغيير الفوضويّ عن طريق الانفجارات المذكورة آنفاً.
إنّ رغبة دوغِن في أن يأخذ ما هو حسن في الليبرالية، أسوةً بما هو حسن في النظريتين الأخريين- الفاشية والشيوعية، يصطدم بحقيقة أنّه يرغب في أخذه بعد القضاء الكليّ على مفهوم الفرديّة، وبالتالي القضاء ليس على مفهوم “الفرد” الليبراليّ فحسب، ولكن أيضاً على فكرة الشخصانية ككلّ، مُنهِياً معها بالتالي أحد أسس الثقافة المسيحية التي ترى في الله “شخصاً” (هيبوستاسيس) وفي المسيح تجسّداً لهذه الشخصانية ومَنحاً للإنسان شخصيتَه الفريدة الإنسانية-الإلهية. فما الذي يبقى من الحريّة بعد حذف الأشخاص؟ بمعنى آخر، لا يمكن فهم ما يبشّر به دوغِن من محو الفردية وخلق “الدازاين” الهايدغري إلّا بأنّه تسليم مطلق ببعض مفاهيم ما بعد الحداثة التي يدّعي محاربتها. وهذا هو نفس الاستنتاج الذي توصّل إليه أبتون عبر طريق آخر، واصفاً دوغِن بأنّه ممثّل لما بعد الحداثة وفكرها رغم كلّ ما يدّعيه من نضال ضدّها.[10] هذا النيل من الفرديّة البشرية يمكن أن يُفهَم بأنّه نيل من المفاهيم التي تشكّل جزءاً من “الإثنوس” الروسي المسيحي، سواء أكانت هذه المفاهيم كامنة في الممارسة أم ظاهرة في الفلسفة الروسية الحديثة واللاهوت الروسي الحديث والمعاصر.
ويردّ أبتون على رغبة دوغِن في محو الفردية البشرية بطريقة بالغة الطرافة فيقول إنّه “إذا كان دوغِن يريد أن يدمّر ’الفرد‘ فإنني أتحدّاه أن يأتي إلى الولايات المتحدة ويحاول العثور على واحد! نعم، ما زالوا موجودين، هنا وهناك، ولكن في عزلة متزايدة. وبنعمة الله أعتقد أنني واحد منهم، وأعتبر عدداً منهم أصدقاء لي. فقط من خلال إرادتي أن أتنكّب مشقة عبء الفردية الذي لا مفرّ منه كنت قادراً على العثور على ’التراث‘: عالم من الحقائق الحية والخالدة والقيم التي تقبع خلف الجدران المتهافتة للاستهلاكية الليبرالية الحداثية والتشظّي النفسي-الاجتماعي ما بعد الحداثي، وهو عالم يتجاوز كلّاً من المجموع المنحلّ والفرد المنعزل الواقف في تحدّ لهذا المجموع. ليس الفرد هو القدر النهائي لـ’الإنسانية‘، ولكن مع ذلك فحين تنفصم عرى الجمع البشريّ فإنّ الفرد هو الطريق الوحيد خارج الكومة الناتجة من البقايا النفسية للهشيم البشري: ليس النهاية الأخيرة، ولكنه- على الأقل في إحدى محطات ’الدرب‘- خطوة لا غنى عنها…حين يكون المجموع…،’الإثنوس‘ في طريقه إلى الجحيم، فإنّ الفرد فقط هو من يستطيع أن يشير إلى درب مختلف.”[11]
ولكن هذه المحاججة الفكرية تصطدم بالهوية المزدوجة أو ربّما المقنَّعة لأطروحة الفيلسوف الروسي؛ والتي تبدو في الكثير من دروبها وتشعّباتها ومفاصلها أقرب إلى خطاب حماسيّ قوميّ منه إلى طرح فلسفيّ جدّيّ، ومحاولة شبه مستحيلة لطرح خطاب فلسفيّ-لاهوتيّ في نفس الوقت الذي يحاول فيه إيجاد طريق متمايزة للثقافة والسياسة الروسيتين المعاصرتين. فكيف يمكن مقارعة مزيج من المفاهيم الفلسفية والثَّمَل القوميّ المتحمّس بحجة فكرية وفلسفية؟ وكيف يمكن الحديث عن المرجعية الإلهية للإنسان والدفاع في نفس الوقت عن منظومة سياسية-مالية-عسكرية معينة؟ ومع ذلك، ربما لا يكون هذا الامتزاج أو التباين نقطة ضعف في نظرية يريد لها صاحبها ان تكون نظرية بقدر كونها ممارسة عملية والعكس أيضاً (ص 181).
وعلى سبيل الاستزادة، يدعو دوغِن إلى هزيمة الليبرالية وتدميرها وخلع الفرد عن منصّة ارتكازه، لأنّ نظريته تعتبر أنّ “كلّ هوية بشرية مقبولة ومبرَّرة، ما عدا هوية الفرد؛ فالإنسان هو أيّ شيء ما عدا كونه فرداً.” (ص 52) وحتى هذا الموضع لا يقدّم دوغِن أيّ محاججة فلسفية لماذا يجب أن يكون الأمر هكذا، بل يلقي بالاتّهامات المتتالية نحو الليبرالية، بطريقة تجعل القارئ يشعر بأنّه وصل إلى ساحة تشهد نهاية (وليس بداية) مشاجرة طويلة، كما لا يشعر بأنّه مدعوّ إلى بحث فكريّ معمّق يتناول المسائل المطروحة واحدة تلو الأخرى.
ولكن بالنظر إلى الأمر من منظور مختلف تبدو عداوة الفيلسوف الروسي- في بعض المقاطع من كتابه- غير موجّهة لفردية الإنسان بقدر ما هي موجّهة نحو ذلك الكائن المحدود، “الإنسان الصغير”، ربيب الدولة الذي حدّدت الثقافة الغربية له أُطُر حريّته ونشاطه، مانعةً إيّاه من تحقيق كامل إمكانياته وكينونته الحقيقية (ص 53). ولكن يبقى كلّ هذا مغلّفاً بضباب من المصطلحات الفضفاضة التي بالكاد تشفّ عن شبح كائن جديد قادر على الإنجاز الفعلي للمهام وعلى “ترويض الآفاق المحرِّضة والمضطربة للإرادة.” (ص 53) كما يرى أنّ لكل “فرد” individual “دازاينه” الخاصّ به (ص 197).[12] ومن هذه الزاوية يمكن إذن الافتراض أنّ دوغِن لا يحذف فردية الشخص كلياً ولكنه يريد أن يمحو هذا الكائن الذي تتحدث عنه الليبرالية والذي صودف-بمعنى ما- أن تم إطلاق اسم “الفرد” عليه. من هذا المنظور يكون دوغِن مع الفرد-ذي الكينونة الأصيلة وضد الفرد-المواطن ربيب الدولة. ولكن دراسة بعض الأعمال الأخرى للفيلسوف الروسي تلقي بظلال الشكّ على هذا الأمر وتُظهِر “الإنسان” الواقعي الملموس بالنسبة إليه مجرّد شبح لحقيقة عليا، فهو كإنسان “الشيوعية” مجرّد أداة لسيرورة أو صيرورة أكبر؛ وذلك على الرغم من تصريحه بالعكس في أحيان أخرى.[13]
هذا الالتباس في الموقف من شخصية الإنسان في هذا الكتاب، واعتباره أنّ هذه “النظرية الرابعة” مجالٌ مفتوح تماماً (ص 54)، يعني أنّ هذه النظرية ما زالت في طور التصوّرات، أي إنّها ليست نظرية بالفعل. وهذه ليست مبالغة على الإطلاق؛ فالفيلسوف الروسي يلخّص الأمر بالشكل التالي: “ما هي ’الممارسة السياسة الرابعة‘؟ إنّها تأمّل. ما هو تجلّي ’الممارسة السياسية الرابعة‘؟ إنّه ما سيُكشَف.” (ص 181) وهذا من ناحية أخرى يعني أنّ هذه ’النظرية‘ مهتمة بالقضاء على العدوّ بسرعة تزيد على إمكانية اكتمال محتواها النظريّ. وهذا ربما ما يدفع دوغِن إلى الدعوة إلى القيام بكلّ ما من شأنه إضعاف الخصم تمهيداً لهزيمته، وهي نشاطات تذكّر بما تقوم به الهيمنة الأمريكية الإمبريالية نفسها في غير مكان في العالم؛ وهكذا يشرح دوغِن بأنّ على روسيا العمل على خلخلة استقرار العدو، بحيث تكون “الفوضى الجيوسياسية في السياسات الداخلية الأمريكية مشجّعة لكل أشكال النزعات الانفصالية والصراعات الإثنية والاجتماعية وتلك القائمة على العرق، [بالإضافة إلى] الدعم الفعّال لكل حركات الانشقاق والمجموعات المتطرّفة والعنصرية والطائفية.”[14] ولهذا فدوغِن لا يخفي استعداده الكامل للاصطفاف مع الجماعات “القومية البيضاء” والجهاديين الإسلاميين إذا كان هؤلاء يقفون في وجه الهيمنة الأمريكية والغربية الليبرالية على العالم، بحجّة أنّ عدوّ العدوّ صديق مرحليّ على الأقل.[15] ولكنه ربما لم يفطن إلى ضرورة الاستطراد وشرح ما الذي يميّز موقفه هذا عن موقف الهيمنة الأمريكية والغربية في الاصطفاف إلى جانب المجاهدين الأفغان والعرب ودعمهم في سبيل هزيمة الروس أنفسهم في أفغانستان.
ربما يكون كلّ ما سبق بعضاً من الأسباب التي تجعل مستمعي وقرّاء دوغِن لا يقومون بردّة الفعل التي يتوقّعها منهم، أو بالأحرى، التي يستغرب أنّهم لا يقومون بها: أن يسرعوا لفتح زجاجة شمبانيا ويبدؤوا بالرقص والفرح والاحتفال بـ”رأس السنة الفلسفية” هذه التي تبشّر بإمكانيات واحتمالات جديدة كلّياً! (ص 35)
[1] جميع أرقام الصفحات في متن هذا المقال تعود إلى المرجع التالي:
Alexander Dugin, The Fourth Political Theory, trans. Mark Sleboda & Michael Millerman (London: Arktos Media Ltd., 2012).
ومن الجدير ذكره أنّ الطبعة الإنكليزية من الكتاب هي طبعة منقّحة ومزيدة عن الأصل الروسي، وبالتالي ليس من الممكن دائماً مراجعة الأصل الروسي للنصوص.
[2] Charles Upton, Dugin Against Dugin: A Traditionalist Critique of the Fourth Political Theory (USA: Reviviscimus, 2018), 184-5.
[3] يقول برديايف مثلاُ في Nikolai Berdiaev, O rabstve i svobode cheloveka: Opyt personalisticheskoi filosofii, http://www.vehi.net/berdyaev/rabstvo/011.html:
“الشخصيات الجمعية، الشخصيات الفوق-شخصية بالعلاقة مع الشخصية الإنسانية هي محض وهم، وتتولّد من التصدير [الإسقاط الخارجي- (أبو ديب)] والتشييء. لا توجد شخصيات بوصفها موضوعات، لا يوجد إلا شخصيات بوصفها ذوات. وبهذا المعنى يكون للكلب والقطة شخصيات أكثر، ويرثون الحياة الأبدية أكثر من الأمة والمجتمع والدولة والكلّ العالميّ. هذه هي الشخصانية اللاهرمية، وهي الشخصانية الوحيدة المتماسكة. لا يوجد أيّة كلّانية أو إجماليّة أو يونيفرسالية خارج الشخصية، وهي توجد فقط فيها، وخارجها يوجد فقط العالم المُشيَّأ الجزئيّ.”
[4] Upton, 193.
[5] See “modern” on https://slovar.cc/rus/ushakov/412351.html
[6] للمزيد حول التفريق الذي نظّر عنه برديايف بين هذين المفهومين يمكن مراجعة فادي أبو ديب، “نقدُ نقدِ أنطون سعادة للفلسفة الشخصانية عند نيكولاي برديايف”، موقع معابر، http://maaber.50megs.com/issue_start2020/perenial_ethics_2022_03.htm
[7] يشرح جون برادي الدازاين بأنّه “’الطبقة‘ الأنطولوجية ما قبل الشخصية pre-personal التي تسبق الأنا.” وهذا يعني أنّه كيان سابق للإنسان الفرد والأنا بالمعنى الديكارتي. إنّه يمثل الـ”يوجد” there-is، كما يمثل مفردة sum (فعل الكَون) في عبارة cogito ergo sum (“أنا أفكّر إذن انا موجود”). ويضيف برادي أنّ “ليست كينونة الدازاين مسؤولة أمام ماهية ما أو جوهر معين يسبقها، بل إنّ جوهرها يكمن في وجودها، والذي من خلاله تتخذ خيارات متنوعة عمّا هي ماهيتها وعمّا سوف تكون، ليس عن طريق تأمل هذه الماهية أو الجوهر بل عن طريق عيشهما.” وبالمختصر فإنّ “الدازاين هو إمكانياته” أو “احتمالاته” أو “قدراته” (كما يفسرها هوغلاند [ص 89]) ضمن سياق معين وبيئة معينة ينجز من خلالهما ماهيته. (John C. Brady, “What is Dasein?” Epoché, Issue 9, Dec. 2017, https://epochemagazine.org/09/what-is-dasein) ويشرح جون هوغلاند الدازاين بأنّه الكيان الذي يسأل “سؤال الكينونة” (ص 76) و”طريقة عَيش تجسّد فهماً للكينونة.” (ص 81-82) في John Haugeland, Dasein Disclosed: John Haugeland’s Heidegger, ed. Joseph Rouse (Cambridge, Massachussets & London, England: Harvard University Press, 2013).
[8] Upton, 198.
[9] C. G. Jung, The Undiscovered Self (with Symbols and the Interpretation of Dreams, trans. R. F. C. Hull (Princeton & Oxford: Princeton University Press, 2010), para. 535, p. 31.
[10] See Upton, 186.
[11] Ibid., 196.
[12] سنرى في المقالة القادمة أنّ فكرة وجود دازاين خاص بكل شخص هو اجتزاء لهذا المفهوم الهايدغري، ولا يمثل كامل الصورة. انظر الحاشية التالية.
[13] سيتم تكريس مقالة منفصلة لمفهوم دوغِن للفرد والفردية وتمايزهما عن الدازاين و”الإنسانوية القصوى” أو “العظمى” Maximum Humanism. فنظرة دوغِن لموقع الإنسان ضمن الثقافة الليبرالية تتراوح بين كونه فرداً بالفعل وبين كونه مجرّد كائن ما دون فردي dividual، وإذا صحّت نظرته الأخيرة يكون نقده للفرد والفردية (وحتى مذهب الفردانية) مجرّد تعبير عن رفض الواقع الليبرالي وليس المفهوم في حد ذاته. في مقالته “الإنسانية القصوى” يوضح دوغِن ما هي رؤيته للإنسان والإنسانية، وهذا سيكون موضوع المقالة القادمة. وتنبغي الإشارة هنا إلا أنّه بسبب قيام دوغِن بدور الفيلسوف النظري وبدور الناشط السياسي والداعية الأوراسيّ الذي يتناول الصراع مع قطب عالميّ معيّن فإنّ تصريحاته وكتاباته قد لا تتطابق دائماً وقد لا تستخدم المصطلحات بطريقة متماسكة يمكن الركون إليها بصورة قاطعة.
[14] Bengt Jangfeldt, ”Imperiebyggaren,” Fokus ]in Swedish[ Nu. 7, 23 Februari 2022, 31.
[15] Alexander Dugin, Eurasian Mission: An Introduction to Neo-Eurasianism, ed. John B. Morgan (London: Arktos Media Ltd., 2014), 168, 177.
قام بإعادة تدوين هذه على الفلسفة الروسية Russian Philosophy.