بقلم فادي أبو ديب
رغم كثرة ورود ما يعبّر عنها لفظاً، لا تجد الحريّة ضمن الصراع الثقافي في عالم اليوم مكاناً لها إلا بشكل هامشي وذرائعي. وهذا طبيعي؛ فالحرية بطبيعتها لا يمكن أن يعظ بها جَمع بشريّ، إلا بمعنى غير روحيّ. المعنى الروحي للحريّة هو أن يستطيع الشخص أن يقول إذا دعا الداعي “وجودي مشروع من دون مبرِّرات، ولا يتسلّط عليّ شيء.” لا ينبغي للإنسان أن يجد نفسه في موقف المُجبَر على تسويغ خياراته المعيشية النابعة من تجربة حقيقية وصراعات أصيلة حُسِمَت أو لم تُحسَم بعد. لا ينبغي على الإنسان أن يجد نفسه في موقع المدافِع عن خياراته أمام هيئة قضائية حرفية أو مجازية.
الإنسان الحُرّ روحياً، وليس فقط مدنياً كذي حقّ نال حقوقه من الهيئة الاجتماعية أو السياسية، يعني أنه وإن كان يمتلك وجوداً بيولوجياً واجتماعياً فإنّه ليس مجبراً بلا نقاش على الرضوخ لذلك وللقيم التي بُنِيت من أجل حفظ النوع أو من أجل التعامل مع شروط تاريخية وثقافية لها معطياتها ضمن حدود الزمان والمكان. إنّه إنسان مدعوّ للحوار أولاً وليس لإثبات البراءة.
كم من السهل أن ينسى الإنسان باسم الحريةِ الحريّةَ، وأن يغطّي مستوىً اجتماعي أو سياسيّ من هذه الحرية على مستوى آخرَ أكثر جذريةً وعمقاً وأصالةً كينونيّة. وإذا كنّا قد اعتدنا على فكرة النفاق السياسي الدولي بخصوص الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، فإنّ وهم الحرية يظهر في معسكرٍ آخر أيضاً، هو معسكر الدفاع عن الخصوصيات الثقافية والحضارية وحريتها في التعبير عن ذاتها؛ فنجد داعية من دعاة حرية التعبير مثل جوردان بيترسون على سبيل المثال—وله شعبية كبيرة في العالم العربي وغيره— يدافع عن حقّه وحقّ فريقه في حرية استخدام المفردات التي يرغب بها، وهذا أمر- من حيث المبدأ- مهم وينبغي أخذه على محمل الجدّ، ولكنه يُستعمَل بطريقة تجعل الدعوة إلى الحرية شديدة النسبية ومشكوك في مصداقيتها. ومن الناحية الأخرى نسمع من آخرين الكثير عن حرية “الخصوصيات الثقافية” بطريقة تجعل الحرية تبدو عادات قبيلة هنا أو هناك، وليس أكثر!
ومع التدقيق في هذا الخطاب أو ذاك ومفرداته وصوره نجده مغموساً بهدير المجموع البشري الممثِّل لأحد معسكرات الصراع الثقافي. كما يتبيّن أنّه غارقٌ في وحل الاعتقاد بالحتمية الطبيعية أو الثقافية التي لا ترى في الإنسان إلا ’فطرةً‘— ما انفكّ مفهومها يتطوّر حتى أصبح مكافئاً لبعض أعقد المنظومات الثقافية— و/أو مجموعةً هائلة من البيانات والأرقام والمؤشرات الحيوية والملاحظات السوسيولوجية، إلى حدّ يجعل الإنسان نوعاً من الموجودات العديمة الرّوح، والتي ينبغي أن تسلّم بقانون الطبيعة الخاصة بجنسها من دون أي تغيير أو إبداع. وهذا يعني أن الخطاب الناطق باسم مستوى ما أو شكل معيّن من الحرية لا يعترف بأي حرية تتجاوز المتعارف عليه ضمن نسق ثقافي ما، وليكن هنا هو النسق الثقافي المحافظ بحسب معايير معينة أو النسق الثقافي الهوياتي من نوع ما.
وهكذا نجد روسيا مثلاً تخاطب الجماهير باسم المبادئ التقليدية وقيم الأسرة، وكأنّ هذه المبادئ والقيم—إذا صدّقنا طبعاً هذا الخطاب الذي لا يُصدَّق— أكثر أهمية وأكثر أصالة كينونية من الإنسان وحقه في اختيار نمط وجوده العميق؛ فالأسرة أسرةٌ وليست جماعة من الحيوانات الدّاجنة، والدولة والمجتمع المتمدّن هما كذلك وليسا قطيعاً من الوحوش البرّيّة، فقط لأنها في شكلها هذا كياناتٌ غير فطرية، بل عقلية ووجدانية قائمة على أساس حاجات وأهداف، ومشروطة وخاضعة للتغيير عظيمه وقليله، تماماً كما أنّ القيم الأخلاقية هي كذلك وليست مجرّد دفقات غرائزية لأنّها قابلة للتحوّل والتعديل والنقض وإعادة التشكيل.
ينسى دعاة الحرية من هذا الطرف أو ذاك أنّ للإنسان الحقَّ الروحيَّ، بوصفه إنساناً، أن يقول “لا” لقانون الطبيعة ولإجماع الثقافة، وذلك من أجل هدف يعتبره أكثر سموّاً أو أكثر عمقا. هذه الإمكانية للرفض هو ما يجعل الإنسان إنساناً، فالحيوان—على حد علمنا— لا يمكن أن يرفض طبيعته النوعية أو نمط حياته. وهؤلاء الغافلون، وإذا كان منهم من لا يُنكر على الشخص البشري هذا الحق، إلا أنّ كثيراً مما يقولونه عن “الوطن” و”الأمة” و”الطبيعة” و”الثقافة” و”الخصوصية” و”الطاعة” و”الصحيح” و”الحقيقيّ” و”القيم” يلغي عملياً ونظرياً حقّ الاختيار وينفي من حيث المبدأ الحرية الروحية للإنسان، وبالتالي ينفي الإنسان طبيعةً ووجوداً— هذا الإنسان الذي باسمه تُثار كل تلك الحروب الثقافية. إنهم يلغون ’الإنسان بوصفه حقيقة‘ من أجل ’الإنسان بوصفه مفهوماً‘، تماماً كما ينفون ’الحرية بوصفها واقعاً وجودياً‘ من أجل مفاهيم مجرّدة للحرّيّة.
والأمر في الحقيقة فادحٌ—فادحٌ إلى درجة أنّ النضال من أجل حرية “الخصوصية الثقافية” أو من أجل “الفطرة” أو “حرية التعبير” يكاد يصبح في حد ذاته ضرباً من ضروب اعتناق الشكليات والمظاهر ومعاداة الروح الإنسانية.
“مثل جوردان بيترسون على سبيل المثال يدافع عن حقّه وحقّ فريقه في حرية استخدام المفردات التي يرغب بها، وهذا أمر- من حيث المبدأ- مهم وينبغي أخذه على محمل الجدّ، ولكنه يُستعمَل بطريقة تجعل الدعوة إلى الحرية شديدة النسبية ومشكوك في مصداقيتها”
ممكن مثال على ما سبق؟
أمر آخر، أنا قرأت المقال أكثر من مرة ولم تصلني الفكرة. لم أفهم ما الذي يريده المقال.
مثال على ماذا؟ على جوردان بيترسون وبعض أتباعه؟ هل شاهدت فيديوهات ومحاضرات له؟
إمممم طيب إقرئيه مرتين إضافيتين إذا عندك وقت :) المقال يعرف بوضوح ما هي الحرية الأساسية للإنسان التي تنشأ منها كل الحريات الأخرى.
سمعتلو بعض الفيديوهات. بعض أفكارو بتعجبني وبتفق معها. بكل الأحوال، أنا طلبت مثال عن شي انتا ذكرتو، لأنو حتى لو كنت أنا بسمعلو مو ضروري اتفق معك بالنظرة.
المقال صدق قريتو أربع مرات اذا مو أكتر، فيو أفكار بس مو مترابطة وما بتودي لبعضا. ع الأقل بالنسبة الي. حسيتو عم يدعي لحرية مطلقة وبنفس الوقت عم ينتقد بعض الحريات.
المقال ينتقد معسكرات الحرب الثقافية- الحريات بوصفها قوانين تفرض على المجتمع.
عموماً لا أستطيع تلخيص كل أفكار بيترسون. أسلوبه ووجهه أهم أحياناً مما يقول، رفم أن بعض ما يقوله، كونه مؤمن صلب بالتطور البيولوجي، ممكن أن ينفي حرية الإنسان بشكل كامل.