الأدب كفلسفة للخطوات الصغيرة: اللحم والدم والصوت المتفجّر




بقلم فادي أبو ديب

لا تنفصل المعرفة الفلسفية والفكرية النظرية عن المعرفة الأدبية، ولا يمكن لذي الفكر أو الباحث الحقيقي في مجالات الفلسفة وعلوم النفس أن يعزل نفسه عن الأدب تحت أي ذريعة كانت، مكتفياً بالتجوال، مهما بلغ عمقه، بين المفاهيم المجرّدة والأنساق الكبرى أو الأفكار العامة أو التفصيلية.  ونرى في تاريخ الفكر الفلسفي وتاريخ علم النفس أنّ كبار الفلاسفة والمنظّرين وواضعي الأنساق كانوا ذوي معرفة أدبية عميقة، لا بل كان لبعضهم صولات وجولات في مجال النقد الأدبي من هذه الزاوية أو تلك.

في روسيا مثلاً، حيث كانت الحقول المعرفية غير منفصلة على الطريقة الأكاديمية الغربية الصارمة، كان يمكن أن يجد المرء بكل سهولة فيلسوفاً محترفاً، مثل فلاديمير سولوفيوف (1853-1900)، يكتب الشعر ويدرس الأعمال الأدبية لجيله والجيل الذي سبقه؛ فكانت مقالاته وخطاباته تنمّ عن معرفة جيدة بأعمال دوستويفسكي وبوشكين وليرمنتوف وتيوتشيف وألكسي تولستوي وبولونسكي وفِت والحركة الرمزية الروسية الذي كان هو شخصياً من ملهميها.  وقرأ الفيلسوف الوجودي الروسي نيكولاي برديايف (1874-1948) أعمال دوستويفسكي وحللها وكتب عن الروائي الكبير كتاباً كاملاً، كما كان ضليعاً بأعمال الأدباء من معاصريه وعضواً في الحركات الفكرية-الأدبية في زمانه، ولعل كل من درس أعماله يعرف مدى تأثّره بالمسرحي النرويجي هنريك إبسِن (1828-1906)؛ وكذلك عند الفيلسوف والشاعر الروسي فياتشسلاف إيفانوف (1866-1949) ودميتري ميرِيجكوفسكي (1866-1941) وزوجته زينايدا غيبيوس (1869-1945) وآخرين في الزمن الذي سُمّي بالعصر الفضي وخلال النهضة الفلسفية-الدينية، فقد كان الأدب والتفكير النظري والفلسفي أمران لا ينفصلان.  وكان دوستويفسكي نفسه قد كشف عن معرفة فلسفية واسعة في رواياته وقصصه التي احتوت على تفاعل وثيق مع الأفكار الفلسفية التي كانت منتشرة عند النخب الروسية في عصره، مجسّدة في شخصيات أبطال رواياته.

وفي الغرب نلاحظ حضور المسرح والأسطورة والشعر الإغريقي القديم في عالم الفلاسفة والمنظّرين وعلماء النفس؛ فمن أوديب وإيحاءاته التي أثرت في صلب مذهب فرويد في التحليل النفسي إلى كارل يونغ ودراسته العميقة لـِ”فاوست” غوته وشعر هولدرلين في المجلد الخامس من أعماله الكاملة المعنون “رموز التحول”، كما كان الأدب مركزياً في الفلسفة الرومانسية الألمانية، لا بل كان تجسيداً لهذه الفلسفة التي رأت في الشعر قمة الفلسفة؛ فكان نوفاليس (1772-1801) بمقولته “ليس الفارق بين الفيلسوف والشاعر إلا ظاهرياً” وفريدريش شليغل (1772-1829) القائل بأنّ “على الشعر والفلسفة أن يتحدا”، وشيلر برسائله الفلسفية وأعماله الشعرية والمسرحية وغيرهم كثيرون.  ومن المعلوم أيضاً الدور الذي لعبه شعر هولدرلين في مرحلة من مراحل فلسفة مارتن هايدغر، ولعلّ القارئ المتمعّن في أعمال شيلينغ (1775-1854) وهيغل (1770-1831) سيصل إلى مرحلة يسأل فيها عن مقدار الروح الشاعرية والمعرفة العميقة بالأدب والأسطورة في فلسفة كل منهما حول الميثولوجيا والوحي من ناحية وحول فلسفة التاريخ وظاهريات الروح من ناحية أخرى.

وقد اقتصرنا هنا على الفكر الحديث المقترن بروح علميّة حداثوية، في الفلسفة وعلوم النفس، ولا ريب أنّه لا يزال هناك الكثير ليقال عمّن جمعوا مجد الفكر النظري الفلسفي والأدب من أطرافهما في تاريخ العرب القديم، من أمثال الجاحظ والمعرّيّ والتوحيديّ، لا بل إنّ الأدب حينذاك كان تعبيراً شاملاً لا يقتصر على الفنّ الجميل وصنعة الكتابة الفنية.

وإذا جاز لنا أن نسأل عما يفعله الأدب ولا تفعله الفلسفة—مع المخاطرة بالإفراط في تبسيط الأمر وافتعال استقطاب مزيف بينهما— يمكن القول إنّ الأدب، من شعر وقصة ورواية ومسرح، يظهر لنا الحياة في ملموسيتها ويلفت نظرنا إلى الأفكار في تجسّدها اليومي وليس في عالمها المجرَّد.  وباستعارة اللغة الوجودية، يكشف لنا الأدب عن كيف يموت الإنسان (موت إيفان إيلليتش لليف تولستوي، على سبيل المثال) بدلاً أن يحدّثنا عن ماهية الموت ودوره في وجود الإنسان كما تفعل الفلسفة والفكر النظري.  وهو يجلو لنا الألم والجمال بتمظهراتهما الثريّة ولا يكتفي بالدوران حولهما تعليلاً أو تفسيراً، إثباتاً أو نفياً.  يبيّن لنا الأدب أيضاً كيف يحبّ العاشقون وكيف تتجلّى رحلة الحبّ في العالم اليومي عند فلان أو فلانة من الناس، ولا يكتفي بالحديث عن مكانة الحب في الاجتماع البشري، عن حقيقيّته أو وهميّته، عن قوته أو ضعفه.  والفلسفة، من دون الأدب بوصفه فنّاً جميلاً وتبصّراً في الحياة اليومية والكونية بجانبها البشري الشخصاني، تأخذ طريقها الحتمي في التحول إلى عقيدة جامدة وإيديولوجية متحجّرة؛ وإذا كانت الفلسفة هي منجم الأفكار الكبرى ومصنع المفاهيم، حتى في أشد نسخها براغماتيةً ووجوديةً ومواجهةً للحياة اليومية، فالأدب، حتى في أشكاله الأسطورية البدائية، هو فلسفة الخطوات الصغيرة والصراعات اليومية، ومسرح المواجهات الكبرى بين الإنسان ونفسه وبينه وبين العالم، حيث تنكشف على خشبته أطوار النفس البشرية ولانهائية معاركها وأسرارها؛ إنه فلسفة اللحم والدم والكاشف الأول عن كل ما تحتويه الحياة البشرية من مباهج ولحظات انخطاف وتراجيديا وسخرية وتناقضات، والتي تقوم الفلسفة لاحقاً بتحليلها ودراستها ووضع مصطلحات لها والتفكير بماهيتها وعلّتها ومكانتها المحتملة على سلم الوجود، بينما تكتفي أحياناً أخرى بالوقوف موقف الدهشة أمام تلك الرؤى العظيمة العصيّة على الاحتواء ضمن نسق فلسفي ومفاهيم تجريدية.  الأدب هو ما يعلّم الإنسان الإحساس وفنّ الإدراك الجماليّ والمعنويّ للفروق بين المتشابهات بوصفه شرطاً لازماً لأيّ عملية تفكير نظريّ وفلسفيّ تالية.

وإذا كانت الفلسفة تكتشف معاني الحرّية في أعمق تصوّراتها وعلاقاتها مع الضرورة، فإنّ الأدب العظيم والخالد يرينا هذه الحريّة مجسّدة باللحم والدم والصوت المتفجّر.

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.