المدنيّة، مفهوم البركة المادّية و…الحكم الألفي



بقلم فادي أبو ديب


“أحبب مخلوقات الله، مجملها وكلّ حبّة تراب فيها. أحبب كلّ ورقة، وكل شعاع من نور الله. أحبب الحيوانات، أحبب النباتات، أحبب كلّ شيء. فإن أحببت كل شيء، أدركت السرّ الإلهي في الكائنات”

فيودور دوستويِفسكي

“ويكون في ذلك اليوم أنّ الجبال تقطر عصيراً، والتِّلال تفيض لبناً، وجميع ينابيع يهوذا تفيض ماءً، ومن بيت الربّ يخرج ينبوعٌ ويسقي وادي السَّنط”

يوئيل النبيّ

اعتدنا على التفكير بأن البركات الإلهية تنقسم إلى مادّية وروحيّة، وهذا صحيح من دون شكّ. إلا أن البعض يبالغ عن غير قصدٍ في الفصل بين هذين النوعين من البركات. صحيحٌ أن هناك فرقاً شاسعاً بينهما، إلا أن مادّية بعض الأمور أو روحانيّتها تتوقف على الطريقة التي بها ننظر نحن إليها أونتعامل معها. وفي البداية علينا أن نفرِّق بين استخدامين لصفة “مادّيّ”. فأوّلهما قد نريد به ما هو عكس الرّوحي، فيشير عندها إلى شيءٍ بعيدٍ عن الرب الخالق ويتعلّق بشهوات الجسد وغرائزه من أكل وشُرب وشهوات التملُّك والجِنس وما إلى هنالك. أما ثاني تلك الاستخدامات فيُستَعمل ليشير إلى إمكانية التلامس الفيزيائي مع الأجسام والمخلوقات، وعندها يمكن القول بأن التعامل مع الحيوانات والنباتات والأشجار والمحيطات هي تعاملات مادّية (فيزيائية). وهكذا يتمّ أحياناً الخَلط بين الاستخدامين، فأصبح البعض يرى بأن كلّ شيءٍ مادّي هو أدنى مرتبةً من الأشياء الرّوحية. وعلى هذا فإنّهم ينظرون إلى فكرة مجيء الرب يسوع المسيح ليحكم الأرض كملكٍ كفكرةٍ مادّيةٍ “لا تليق” بالفِكر المسيحي “الروحاني الرّاقي”. وإن نظرنا بتمعُّنٍ في الكِتاب المقدَّس، ثم فكّرنا بعمقٍ في الحياة الواقعية سنجد أن الأمور المادّية ( الطبيعية الفيزيائية) لها دورٌ كبيرٌ في عبادة الرب الإله، لا بل وفي التعامل معه بشكل قريب وفاعل.

الرؤية الكتابية للبركة المادّية:

منذ البدء خلق الرب الإله الإنسان في جنّةٍ مليئةٍ بالخيرات “وأخذ الرب الإله آدم ووضعه في جنّة عدن ليعملها ويحفظها” (تكوين2: 15). ولا يوجد ما يدفعنا إلى  التفكير بأنّ تلك كانت حالةً “مادّيةً” أقلّ من حالةٍ أخرى روحانيةٍ (هلاميّة غير فيزيائية) لا ترتبط بالملموس. فقد أراد الربّ للإنسان أن يبتهج بخليقته ويستمتع بها، وأن لا يراها ويتعامل معها بجشعٍ وشراهة بل بتسبيحٍ وشكرٍ وعِرفان. والعديد من المزامير تبيِّن المكانة الكبيرة التي تحتلّها الخليقة الإلهية الطبيعية في تشكيلها لشخصية الإنسان العابد بالرّوح والحقّ. فكاتب المزمور 104 يرى في السَّحاب والرِّياح والجبال والرُّعود علاماتٍ واضحة على سيادة إلهٍ شخصيٍّ عظيمٍ ومهوب (ع1-9). كما أنّ العصافير المزقزقة والطيور المغرِّدة وأعشاب الأرض التي تغذّي البهائم وتمنح الطعام للإنسان، هي كلّها أعمال الربّ العظيمة والحكيمة. يرى كاتب المزمور حكمةً رائعةً وتستحق الذُّهول والعَجَب أمام كلّ شجرة سروٍ سامقة أو شجرة أرزٍ عظيمة في جبال لبنان (ع16و17)، ويكمل الشّاعر متغنِّياً بفرح الربّ بأعماله وخليقته الرّائعة وبلذّته بنشيده هذا (ع31و34). فكيف إذاً نظنّ بأنّ وجود أيّ دورٍ لخليقة إلهية ملموسةٍ مادّياً (فيزيائياً) في المستقبل المجيد هي فكرةٌ من صميم المادّية (الغرائزية) الشّرِهة لإشباع الشهوات؟! وفي المزمور 147 مثلاً، نجد أن الوحي يضع ناموس الرب العظيم وفرائضه وأحكامه التي اعطاها لإسرائيل، جنباً إلى جنب، مع الأعمال العظيمة التي خلقها ورتّبها في الطبيعة الخلّابة (147: 16-19). كما أن الوحي المبارك يطلب من أورشليم الابتهاج بالسلام والشِّبَع إلى جانب فرحها بإجراء الرب لكلمته وإرادته في الأرض (ع12-15).

إن العهد الجديد الذي علّمنا أن نطلب ملكوت الله اوّلاً لم يحتقر الخليقة الطبيعية ولم ينزِل من قدرها، بل أنزل من قيمة شهواتنا وطمعنا. والرب يسوع دعانا أن نرى كرم الرب وأعماله في زنابق الحقل وطيور السماء والعصافير الصغيرة. فالمشكلة كانت ومازالت في نظرتنا للطبيعة وليست في الطبيعة نفسها التي هي خليقة يهوه، والتي سقطت بسببنا وما زالت تئنّ، “لأنّ انتظار الخليقة يتوقَّع استعلان أبناء الله. إذ أُخضِعت الخليقة للبُطل- ليس طوعاً، بل من أجل الذي أخضعها- على الرّجاء، لأن الخليقة نفسها أيضاً ستُعتَق من عبوديّة الفساد إلى حريّة مجد أولاد الله. فإننا نعلم أنّ كلّ الخليقة تئنّ وتتمخّض معاً إلى الآن…” (رومية8: 19-22). العِتق الذي تنتظره الخليقة بأنينها يوازي فداء الأجساد (تمجيدها وتحوُّلها إبى أجساد معافاة لا تخضع للمرض والتَّلَف والموت) الذي نئنّ نحن أيضاً بانتظاره. فهذه الخليقة الممثَّلة بالحيوانات والنباتات والأنهار والمحيطات والبحار والغابات وبما فيها من ظواهر وفعاليات حيوية وتوازن طبيعي، لا بد أنه كانت كاملة جداّ قبل السقوط، هي بلا شكّ يجب أن تتجدَّد مرّة أخرى حينما يأتي الربّ لكي يحكم الأرض ليجري إرادته الكاملة فيها، ويعلِّم البشر كيف تكون العدالة وما هو القصد الرّئيس من الحياة على هذه الأرض.

الحياة المدنيّة وتدمير علاقة الإنسان ببيئته:

لا أجد غضاضةً من القول بأن الحياة المدنيّة الحديثة قد أفسدت تماماً معنى البركات المادّية الملموسة، وجعلت الإنسان يخلط بينها وبين المادّية بمعناها الذي يشير إلى الطمع والشهوة والبُعد عن كل شيء فوق طبيعي أو يختص بالرب الخالق. هذه الحياة المدنيّة الغاصّة بالتعاملات التجارية والممتلكات الكمالية الاستهلاكية دمّرت صورة أية بركة مادّية، ودفعت معظم الناس، بما فيهم المسيحيين، إلى أحد نقيضين: إما الانجراف وراء شهوة الامتلاك وفهم البركات المادية في الكتاب المقدَّس على أنها إغراق في الامتلاك، أو النظر إليها كشيءٍ دنيءٍ لا يرقى إلى مرتبة الماورائيات أو الرّوحيات. إلا أن الإنسان الذي استمرّ يعيش في البيئة التي أراد له الرب الخالق أن يكون فيها يمكنه أن يفهم بسهولةٍ أكبر أن البركات المادّية المتعلق بالطبيعة والحيوان والنبات، لا تنفصل انفصالاً تاماً عن الرّوحيّات، بل هي تقرِّب الإنسان من الخالق العظيم، وتدهشه وتعلِّمه بأن تلك الكائنات التي يتسلّط عليها هي عائلته الكبيرة التي أرادها الرب أن تمدّه بالمنظر الحَسَن والغذاء الجيِّد وتهيِّئه بالفِكر الصافي والنَّفس المتقبِّلة لموقعه ضمن منظومة منظَّمةٍ ضخمةٍ يشكِّل هو جزءاً لا يتجزّأ منها. هذا طبعاً لا يتوفَّر في حياة المدينة المكتظّة، التي يعبِّر إنشاؤها، بعيداً عن أيّ مظهرٍ طبيعي، عن الجشع الإنساني بأجلى صوره. ففي حياة المدينة يعتاد المرء أنّه سيّد أمره، وبأن لغة المال هي التي تتكلّم وتبيع وتشتري، ومن ليس له “تلك السِّمة” من المقاييس والأنظمة الوضعية لا يستحقّ العيش في نظامٍ يعتمد بوقاحةٍ مبدأ “البقاء للأصلح” أو “البقاء للأشرس”، وربّما أحياناً وللأسف “البقاء للأحقر”. ففي المدينة لا يختبر المرء عظمة الخالق وخليقته، وقليلةٌ هي الفرص التي تُمنَح له كي يسبِّح الرب من قلبه (إلا إذا كسب بضعة قروشٍ)، فهو لا يستطيع أن يرى أعمال يدي الخالق وصناعة يديه واضحةً أمامه مباشرةً. الحياة المدنيّة ربما تكون قد دفعت الإنسان نحو العمارة الأجمل واللباس الأنعم، وربّما في بعض الأحيان حسّنت لغته وأسلوب تعبيره وطرق اللفّ والدَّوران، ولكنها أبعدته عن ذاته الحقيقية وأيقظت فيه السّعي الوحشي نحو الامتلاك ومحاربة الآخر في مكانٍ لا يتّسع حتماً للجميع. لا أقول أن الإنسان في البيئة الطبيعية ليس لديه تلك الشهوات والمطامع، ولكن لا ريب في أن الحياة المدنيّة لا تترك خياراتٍ واسعة لحياة البساطة والتواضع والتواصل اللازم مع الخليقة.

الحياة المدنيّة وآثارها السلبية في رفض البركة المادّية:

هذه البيئة ذات الثقافة المعادية للبساطة والحقيقة الإنسانية رغم كل ما ترتديه من أثوابٍ برّاقة ولامعة، دفعت بمن يرفضها إلى رفض تقدير البركة المادّية والنظر إليها، كما  أسلفنا، على أنها مطلبٌ وضيع المنزلة. ووقع كثيرٌ من المسيحيين في مشكلة الفصل بين البركات المادية والبركات الرّوحية، على أن إحداها أرضية والأخرى سماوية، إحداها بدائية والأخرى راقية. وهذا برأيي خطأ كبير يهمل من قيمة الخليقة التي فرح الرب لمّا صنعها ورأى أنها حسنةٌ جدّاً. هذه النظرة كانت أيضاً إحدى الأسباب في رفض فكرة مجيء الرب يسوع المسيح مرّة أخرى ليجلس على عرشه ويؤسس مملكته على هذه الأرض، على اعتبار أنّ مثل هذه الفكرة ربما تقلِّل من رقيّ المسيحية “التي تعلو عن المادّيات”، رغم أنّ الربّ سبق في مجيئه الأوّل وأخذ جسداً مادّياً يأكل ويشرب ويتعب، وقام من بين الأموات بجسدٍ ممجَّدٍ لا يتعب ولا يمرض ولا يموت، ولكنه أيضاً يأكل ويشرب.

مملكة منتَظَرة لمسيّا منتَظَر:

إنّها حلم الشعوب، ومُشتَهى القدّيسين منذ غابر الأزمان وحتى اليوم، مروراً بكل الأنبياء الذين عاشوا على أمل رؤية ملكوت المسيّا العظيم، حينما “يكون في ذلك اليوم أن أصل يسّى القائم رايةً للشعوب، إيّاه تطلب الأمم، ويكون محلّه مجداً” (إشعياء11: 10). في ذلك اليوم يُنهي الربّ كل الممالك والقوانين البشرية والأنظمة الفاسدة، ويومها يكون أنّه “…من صهيون تخرج الشريعة، ومن أورشليم كلمة الرب. فيقضي بين الأمم وينصِف لشعوبٍ كثيرين، فيطبعون سيوفهم سككاً ورماحهم مناجل. لا ترفع أمّة على أمّة سيفاً، ولا يتعلَّمون الحرب فيما بعد.” (إشعياء2: 3-4).  عندما نفهم معنى البركة المادّية (الطبيعية) وعلاقتها في تحفيز الرّوح وشدّ انتباه الجزء الداخلي في  الإنسان إلى عمل الرب، سنتمكّن من قبول فكرة قدوم ربّنا يسوع المسيح ليجلس على عرشه في صهيون (مزمور132)، ويحكم أرضاً تفيض بالخير والبركة، يغرس الناس فيها كروماً ويأكلون (إشعياء65: 21)، أرضاً مجدَّدة مفديّة تشكِّل بيئة خيّرة لإنسان يرى مجد السيِّد الرب في كل ما حوله من علاقات إنسانية وخليقة طبيعية كاملة. في “أزمنة ردّ كلّ شيء، التي تكلّم عنها الله بفم جميع أنبيائه القدّيسين منذ الدَّهر” (أعمال الرسل3: 21) حين يعود المُلك للرب يسوع المسيح (أعمال1: 6) سيعود المفهوم الصحيح للبركة المادّية الطبيعية وستعود معها كثيرٌ من الأمور المفقودة في هذا العالم. فعندما يدرك الناس حقّاً ماهية البركة الحقيقية والسلام الحقيقي سيهجرون معظم أنشطتهم التي يمارسونها اليوم، والتي لا تفيد إلا في تغذية عجلة الطموح البشري الطامع والمغفَّل.

دعوة الكنيسة في كلمة:

على كنيسة يسوع المسيح أن تعلِّم وتبشِّر بذلك الملكوت، وأن تدعو نفسها أولاً، والآخرين ثانياً، إلى المحاربة من أجل العيش وِفق قيم الملكوت المنتَظَر. وبدل أن تدعو أفرادها إلى الانخراط في كثير من الأنشطة المجتمعية الفارغة المضمون والقيمة، عليهم أن تعلِّمهم أن يكوونوا ثوّاراً شجعاناً على كل المقاييس السطحية الفارغة التي تشكِّل ما يُدعى اليوم أسس الحضارة المدنيّة الحديثة. عيشي أيتها الكنيسة قيم يسوع المسيح بكل شجاعة، وانظري للعالم كما نظر إليه يسوع المسيح، فمملكتك ليست من هذا العالم. ملكوتك قادم على الأرض ولكن ليس في هذا العالم. وما أبعد الفرق بين الأرض والعالم!

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.