بقلم فادي أبو ديب
“هل تحيا أنت في واقع يسوع المسيح؟…هل يمكنك أن تقبله؟ هل تأخذه لتطبِّقه على حياتك؟ هل تسمح له بأن يقود كل حياتك حتى في وسط أشدّ الآلام؟ إن لم تفعل هذا لن يكون لك أي حقّ للتشوُّق لملكوت الله.”
كريستوف بلومهارت
“لست أدري إن كان بمقدوري أن أحبّ الكون بكلّ روحي، من غير أن أكون قد عشقت امرأةً على الإطلاق”
فريديريك شليغل
غالباً ما يخطر في بالنا عندما نسمع أو نقرأ عن الرومانسية تلك المشاعر الحالمة المرتبطة بمراحل المراهقة والبُعد عن الواقع التي تصيب الشباب في مرحلة معيَّنة من مراحل العمر، حيث تتخَّذ هذه الكلمة في الوسط الشعبي معنىً يقترب من السَّلبية لوصف حالة “غير صحّية” لا تليق بالعقلانيين والناضجين. وفي معظم الأحيان يفقد هذا اللَّفظ دلالته الأصلية ليأخذ دلالةً مطّاطة تشير إلى كل ما هو حالمٌ ضعيف أو دينيّ مثالي غيرَ قابلٍ للتحقيق. ولكن الرّومانسية في الحقيقة ليست هكذا، فهي ليست أحلام مراهقين أو أفكاراً دينية خيالية. والجواب الذي يجب أن نوجِّهه لكل من يسأل مستنكراً أو مستغرِباً “ألا تجد أن كلامك حول الإنسانية والمجتمع والمحبّة رومانسي بشكل زائد عن الحدّ؟!” هو ” ألعلّ الرّومانسية هي الأصل الذي يجب العودة إليه؟ أليست الرّومانسية عنصراً أساسيّاً، لا بل الطَّابع الأساس، في الرسالة المسيحية؟”. الرومانسية قويّة وليست ضعيفة لأنّ لديها قوة اللامرئي في محاربة كل ما هو مرئي ومعقول. أليست المحبّة التي احتلّت الجزء الأكبر من رسالة يسوع المسيح رومانسية أيضاً؟! من يجرؤ على الادّعاء بأن يسوع وعظ شيئاً مقبولاً وموجوداً في الواقع؟!!
الرومانسية كحركة أدبية وفنية وفلسفية ولاهوتية لا يمكن أبداً إبعادها عن المسيحية والكتاب المقدَّس. وهذا ما يقرّ به صراحةً الأَخَوان فريديريك وفيلهلم شليغل، وهما من المؤسّسين الأوائل للحركة الأدبية الرّومانسية. ورغم أنها جلبت على النظرة إلى الكتاب المقدَّس الكثير من الضَّرر كنتيجة لأعمال فريديريك شلايرماخر اللاهوتية التحرُّرية، إلا أننا لا يمكن بكل الأحوال إنكار أن الحركة الرّومانسية بجوانبها الأدبية واللاهوتية هي “الابنة المشاغبة” للمسيحية الحقّة. فمسيحية تفتقد للعناصر الرّومانسية من حبٍّ للطبيعة، وتمجيد للعلاقات الإنسانية بمظاهرها كافّة، كما يظهرها الإنجيل بأسمى صورها، هي في الحقيقة “مسيحيّة” بعيدة عن المسيحية الأصيلة. والكتاب المقدَّس يطفح ويفيض بالعناصر الرومانسية اللاعقلانية والتي تقدِّس البعد التخيُّلي لما هو حقيقيّ وآتٍ في زمنٍ ما. إن “العالم…الذي لم يعرف الله بالحكمة” (رسالة كورنثوس الأولى1: 21) كان ضحيّة للعقلانية والفِكر البشري، لذلك استحسن هذا الإله أن يخلِّص العالم “بجهالة الكرازة” بالقبول غير المشروط لما هو قادم، بالتسليم والاستسلام الكامل للصُّوَر التي يترك لنا الروح الأقدس ملامح عنها في مخيِّلتنا، وفي قلبنا، لتصبح هي شَغَفنا وحبَّنا. هذه الصُّور المتعلّقة أولاً، وعلى هذه الأرض، بكل ما هو سامٍ وكامل سواء كان حبّاً أم عدالةً أم صفاءً أم عشقاً.
لا يمكن لأحدٍ أن يدرك حقيقة الملكوت القادم الذي “أعلنه…الله بروحه” (رسالة كورنثوس الأولى2: 10) إلّا من استسلم إلى حقيقة التَّوق المقدَّس الذي يضعه الرّوح في قلبه ومخيِّلته، ولكن ” الإنسان الطبيعي لا يقبل ما لروح الله لأن عنده جهالة. لا يقدر أن يعرفه لأنه إنما يُحكَم فيه روحياً.”(رسالة كورنثوس الأولى2: 14). هذه الجهالة هي الحكمة البشرية، هي العقلانية التي تُبعِد كل ما له علاقة بالمشاعر والأحاسيس والخيال والتمرُّد على الكثير من بديهيّات العَيْش، وهي إثم الاعتقاد البشري بأن القواعد التي يضعها هي الطريق والحلّ لصراعاته ومشاكله وهواجسه.
حلم الملكوت هو ذروة الرومانسية المسيحية، والذي لا يمكن انتظاره إلا بتقديس هذا الحلم والإيمان به إيماناً مطلقاً. هذا الحلم الرّومانسي الذي ألهب خيال الجماهير، التي تبعت يسوع المسيح بعشرات الآلاف خلال تجواله، وعشّش في قلوبهم، كان هو الموضوع الرئيسي والوحيد الذي نادى به يسوع المسيح، فالصليب والفداء والقيامة والكمال الأخلاقي كانت كلّها من أجل الخلق والتحضير لتحقيق شيء واحد، هو ملكوت الله. فالرومانسية هي الحلم والسّعي نحو الملكوت الذي يبدأ هنا على الأرض قبل أن يكتمل هناك في الدَّهر الآتي. الرومانسية هي الجنون الأقدس والرفض الشّجاع لكل المقاييس العالمية المتعلِّقة بالإنسان وعلاقاته، ولكلّ النظريات التي تحدّ من إنسانيته وحرّيته التي يسعى من خلالها لأن يكون أكثر فأكثر على صورة الله ومثاله. وهو لا يكون على هذه الصورة إلا إن رضي أن يقبل في داخله روح الله، فيصبح هدف حياته ليس الأنانية الذاتية والنجاح العملي الفارغ من مضمونه، بل هدفه هو التوحّد مع الآخر وفيه، فيصبح الله والإنسان الآخر، والله الذي في الإنسان الآخر، هما أولويته. بكلمات أخرى، تصبح العلاقات الإنسانية – الإلهية – الإنسانية بما فيها من محبّة بأشكالها المختلفة هي الأولوية المتقدِّمة على كل ما يُسمّى “تحقيق الذات”، والذي سيتتحقق عندها في الآخر ومعه وبه.
إن عناصر الرومانسية الحقيقية كما أراها هي حبّ الطبيعة المخلوقة، وتقديس الإنسان كصورة الله وكمشروع “مسيحٍ آخر” مزوَّدٍ يمواهب وأحاسيس وعطايا كاملة يجب أن يكون لها الأولوية في التعامل معه كإنسان، والانفصال عن منظومة العالم القائمة على الاستغلال وتقديس كماليات النجاح والمركز والمظهر والسعي نحوها، سواء كان هذا السعي همجيّاً أم “راقي الأسلوب”. فالعنصر الأول هو البيئة الوحيدة المناسبة للإنسان والتي أرادها الله له، والثاني هو المشروع الأثمن والحقّ الممنوح من الله لكل إنسان، أما العنصر الثالث هو الامتحان الحقيقي للنجاح في تطبيق العنصرين السابِقين. وبهذه العناصر الثلاث تتأجّج المخيِّلة، وتكتسب الحياة لوناً حقيقياً، وندخل إرادياً في مشروع الملكوت الإلهي، البعيد كلّ البُعد عن المشتِّتات التي خلقها الإنسان التائه نفسه على شكل “واقع” يجب الخضوع له. فالواقع الذي يطالبنا الواقعيون بالخضوع له ليس قدراً محتوماً، بل هو نتاج السقوط البشري الذي وهو يدّعي اهتمامه بالإنسان، نسي الإنسان وقيمته والقصد من وجوده، وأهمل حرّيته في اختيار طريقه، فجعل الإنسان نفسه عبداً لقيمه التي اخترعها هو ، وسمّاها هو، ورفعها هو نفسه إلى مرتبة بديهيات محرَّم الاقتراب منها. فأصبحت المشاعر المندفِعة والقويّة والنبيلة ضعفاً وتهوُّراً، وأمست القناعة سذاجةً وكسلاً، أما السّعي والعمل لما هو خارج الفائدة الشخصية فهو ليس أكثر من مضيعة تافهة للوقت والجُهد وتخريباً لمستقبل الفرد برأي الواقعية العقلانية!
لا يمكن للمسيحية أن تكون صحيحةً وأن تكون كما أرادها يسوع إن لم تكن رومانسية، لأنها هي كذلك. فالمسيحية إذا توقّفت عند حدود العقيدة المنظّمة أضحت كابوساً ثقيلاً وحقلاً مجدِباً لا فائدة منه. يقول كريستوف بلومهارت بأن “ما هو مهدِّد هو الحقيقة”. ولكن ما هو المهدِّد لهذا العالم الساقط سوى ذلك الحُلم البعيد الذي وضعه يسوع في أرواحنا ومخيِّلتنا؟! وكما يتابع فيقول بأنّه ” على هذه الحقيقة أن تصير واقعاً جديداً. فهي ليست مسألة تعاليم جديدة، أو قوانين ونواميس جديدة أو مؤسَّسات جديدة…فالحقيقة التي يجب أن نفتح آذاننا لها هي الواقع الجديد الذي يأتي به ابن الإنسان للعالم. فهي رسالة مفادها أن الله يخلق واقعاً جديداً على الأرض الآن، بدءاً بشعبه ثم بالخليقة كلّها…” (كريستوف بلومهارت- في انتظاره فِعل، ص36). ويوضِّح الفيلسوف الألماني فريديريك شيلينغ بأنه “ليس إلا بوصولنا إلى النقطة التي يختلط فيها المثالي بالواقعي، وعالم الفِكر بعالم الطبيعة، نجد السكينة الأخيرة والقصوى…كذلك فإن المتطلَّبات الأخلاقية لا تتحقق إلا حين تكفّ عن الترائي لنا على شكل أفكار، أي على شكل أوامر، بل أن تمتزج مع طبيعة روحنا نفسها لتشكيل واقعٍ واحدٍ في أعماقنا.” (ريكاردا هوخ – الرومنطيقيون الألمان- الجزء الأول، ص 135). وإذا ترجمنا هذا الكلام مسيحياً فإن امتزاج المثالي بالواقعي عند شيلينغ، هو ابتلاع هذا الواقع بالواقع الجديد الذي يولِّده تطبيق الحلم الرومانسي للملكوت في حياتنا ومحيطنا، اما امتزاج متطلَّبات الأخلاق مع أرواحنا فليس سوى ولادة هذا الذهن مرّة أخرى من رَحِم الرّوح القدس.
تقول الناقدة والشاعرة الألمانية ريكاردا هوخ:
“…الحبّ وفقاً لمفهوم بولس ليس شيئاً آخر سوى ما كان الرومانسيون يسمّونه…اتّحاد الوعي واللاوعي…” (نفس المرجع السابق، ص136)
فالوعي هو إدراكنا لواقعنا الموجود، أما اللاوعي فهو مكمن تلك الأفكار والشظايا المتفتتة التي تمدّنا بقوّة الحلم والشوق وتلك الصُّور غير المكتملة للعالم الرومانسي الذي نحلم به. لنتوقّف ونسأل أنفسنا: ما الذي فعله يسوع الناصري غير أنّه جدّد لاوعينا ومنحه دَفقاً إضافياً من المشاعر نحو الملكوت؟! الرّومانسية إذاً هي المسيحية الحقّة. وتقول هوخ بأن “مؤسسي الدين القدماء والرّسل كانوا رجالاً يؤثرِّ اللاوعي عليهم بجبروت أكثر بكثير من قدرتنا على التخيّل، وبجهلهم بالمصدر الذي تنبثق منه قناعاته، كانوا يؤمنون بورعٍ بألوهية أصلهم، ويتّخذون حيال تلك القناعات موقفاً مغايراً لموقف الإنسان الواعي…” (المرجع السابق، ص 163). فبالعقلانية لا يمكن للإنسان اكتساب أيّ رجاءٍ أو رؤية خارج نطاق واقعه المحدود. وفشلنا كمسيحيين يكمن في فقدان الرومانسية (التي هي الإيمان بحقيقية اللامنظور أيضاً)، أي في فقدان المسيحية نفسها واحتفاظنا ببعض العقائد الجامدة والتعاليم المقولبة لتناسب الواقع! وتعبِّر ريكاردا هوخ عن ما يمكن أن يكون حقيقة المشكلة فتقول:
“يساورنا الشكّ في أن يكون ممكناً أبداً رؤية أناس حديثين يعلنون عن إيمانٍ جديد قادرٍ أن يفرض نفسه على عددٍ كبير. فوعيهم يحيط بأشياء كثيرة حتى ليتساءل المرء معها عن الأشياء التي لا يؤمنون بها بدلاً من التساؤل عن الأشياء التي يؤمنون بها.”
ربما يجب أن نسأل هنا بالمناسبة: هل وعينا هو الذي يحيط بأشياءٍ كثيرة، أم أن هذه الأشياء الكثيرة هي من تحيط بوعينا وتشوِّش عليه وتدمِّر صفاءه؟! فهذا الوعي المعاصر المشبَع والمخنوق بواقعيّة الواقع بما يحتويه من أمور ومسلّمات لا نجرؤ على الاقتراب منها او الثورة عليها، أصاب مسيحيتنا في مقتل، لأنه قتل عنصرها الرئيسي القائم على تطبيق الحلم والمخيِّلة، والثورة الفاعلة والعملية هنا على الأرض وفي قلب المجتمع. ببساطة، فإن هذا الوعي قد اغتال الرّومانسية!
قد يتبع…!
المدنيّة، مفهوم البركة المادّيّة…والحكم الألفي
ماذا أقول؟!!
إنها الحقيقة!!!
إنها صرختي التي ولدت الآن (بقلمك) وخرجت إلى النور…ولم تعد يتيمة!!
اختصرتني!!
:) شكراً راميا
جمال الرومانسية أنها مبدعة ولكنها لا تحب أن تكون يتيمة، فهي تقدّس إبداع الفرد وتعشق كمال الجماعة الحرّة.