معركة هرمجدّون كضرورة تاريخية


بقلم فادي أبو ديب

“هرمجدون”، هذا الاسم الذي اخترق الثقافة الغربية، الأنكلوساكسونية على وجه الخصوص، بكل أوساطها الروحية والعلمانية، الدينية والعسكرية والاقتصادية، وأصبح يدلّ على كلّ كارثةٍ هائلة قد تصيب العالم، كونيةً كان أم عسكريةً أم اقتصادية؛ هذا الاسم مازال منسيّاً أو مختبئاً لا يجرؤ على الظهور في أوساط اللاهوت المسيحي في الشرق الأوسط. وهو لا يُذكَر إلّا من قبل بعض منظّري الإسكاتولوجيا الإسلامية بمختلف فئاتها، أمّا المسيحيّون فنسوا تقريباً هذا الاسم، ولم يبقَ إلا قلّة قليلة مبعثَرة هنا وهناك تؤمن بقدوم هذه الحرب وما يسبقها من أحداث، وقلّة أقلّ تجرؤ على الحديث عن هذه الحرب، والتي هي بحسب النصوص العبرية والمسيحية ستكون معركةً أو حرباً شاملة ستشارك فيها معظم أمم العالم، وسيكون هدفها الواضح أورشليم، كما نقرأ في الفصلين 12 و14 من نبوءة زكريا.

        عدم الإيمان بهذا الحدث الروحي- التاريخي له عدة اسباب: أحد هذه الأسباب هو عدم دراسة النصوص المتعلِّقة بالموضوع بتاتاً، وهي الموجودة بوضوح في كتاب رؤيا يوحنا (حيث هو مذكور بالاسم)، وفي العديد من نبوءات الأنبياء العبرانيين (ولو أنها لم تُذكَر بهذا الاسم حصراً). أمّا السبب الآخر (وهو خاص بالدارسين) فهو تفسير نصوص المعارك بشكل “روحاني مجازي”، بحيث تصبح دالّةً على مجرَّد معارك روحية تجري في داخل الإنسان أو بين الخير والشرّ خلال مسير التاريخ مشابهين بذلك تفسير طائفة الأحمدية الإسلامية، وهم بذلك يضربون عُرض الحائط بكل المواقع الجغرافية والأسماء المذكورة بدقة في الكتاب المقدَّس. وكما يبدو فإنّ العامل الذي أدّى لهذا النوع من التفاسير هو انتشار اعتقاد غريب مفاده بأنّ المسيحية أكثر روحانيّةً ورقيّاً من أن تؤمن بحدوث معارك وحروب في أماكن محدَّدة، وتشارك بها أمم معيَّنة!

        هنالك أيضاً سببٌ ثالث لهذا الرّفض، وهو ربط هذه الحرب في بعض النظريات التاريخية- اللاهوتية بمسألة عودة إسرائيل كأمّة وبناء هيكل سليمان من جديد، مما يؤدّي إلى نفور بعض الدارسين أو غير الدارسين من الموضوع لأسباب قومية وعِرقية، وخصوصاً في منطقةٍ عُرفِت بحساسية تاريخية ودينية مستعرة، وغير قابلة للتهدئة، عمرها قرونٌ كثيرة.

        “هرمجدون” والتي تعني بالعبرية “جبل مجدّو” هي اسم تلٍّ يقع جنوب شرق حيفا، وأصبح هذا الاسم يدل على منطقة واسعة تُعرف فعلياً باسم سهل يزرعيل الذي يصل بين بحيرة طبرية ونهر الأردن شرقاً والبحر المتوسط عند حيفا غرباً، وصولاً إلى السامرة جنوباً وتخوم مدينة الناصرة شمالاً. وقد كان هذا السهل مكاناً لعدة معارك عبر التاريخ، منها معركة جدعون مع المديانيين الواردة في سفر القضاة في القرن الخامس عشر قبل الميلاد، والمعركة الشهيرة بين جيش يهوذا وجيش نخو ملك مصر، والتي قُتِل فيها الملك الإسرائيلي التقيّ يوشيا عام 609 ق.م.

إلا أن نظرة روحية وتاريخية إلى موضوع هذه الحرب العالمية القادمة سيجعلنا نرى على الأقل عنصرين هامّين، وهما أن هرمجدون ضرورة تاريخية، كما انّها من جهة أخرى ضرورة أخلاقية.

لماذا هي ضرورة تاريخية؟

من الناحية اللاهوتية- التاريخية يؤمن المسيحيون على اختلافهم، بأنّ التاريخ البشري المعرووف ينقسم إلى مراحل (دهور). وسواء قسّمنا التاريخ إلى سبعة دهور كما يفعل التدبيريون Dispensationalists أو إلى ثلاثة أو أربعة كما يفعل غيرهم أو بعضٌ منهم، فإننا نلاحظ أن نهاية كلّ دهر وبداية دهرٍ آخر تتميّز بحدث عظيم سواء كان كارثة أم عهد إلهي جديد. فحسب النظرية التدبيرية (الدهرية) ينتهي الدهر الأول الذي هو عهد البراءة بحادثة السقوط البشري، أما الدهر الثاني الذي هو عهد (أو عصر) الضمير فينتهي بطوفان نوح، والدهر الثالث الذي هو دهر الحكومة البشرية ينتهي بكارثة بلبلة الألسنة وانقسام الأمم انطلاقاً من حادثة برج بابل، أما الدهران الرابع والخامس، اللذان هما عصر البطاركة (إبراهيم وإسحق ويعقوب) وعصر الناموس الموسوي، فينتهيان بالخروج من مصر وإعطاء الناموس، وولادة يسوع المسيح، على الترتيب. أما العهد السادس، وهو الذي يهمنا، والذي هو عصر الكنيسة فسوف ينتهي بمجيء يسوع المسيح لينهي حرب هرمجدون، ويبدأ الدهر السابع بحكمه للأرض، أي عصر الملكوت. ويعتبر البعض أنّ الحالة الأبدية هي “الدهر الثامن” والأخير، والذي سيبدأ بعد انتهاء العصر السابع بالقضاء النهائي على الشيطان والقوى الشرّيرة في المواجهة الأخيرة الحاصلة في نهاية عصر الملكوت بعد أن كانت مثبَّطة طوال فترة هذا العصر تقريباً (رؤيا يوحنا 20).

وبالمحصّلة فإن انتهاء كل عصر من هذه العصور تقريباً يتميّز بحدث كبير أو كارثة عظيمة تنهي حالة بشرية قائمة، فكلّ مرحلة تاريخية تبدأ ثم تبلغ ذروتها وبعدها تنتهي وتضمحلّ. وإذا نظرنا بشكل مختصر إلى التاريخ الذي نعرفه جميعاً، وبعيداً عن التاريخ اللاهوتي، نجد أنّ العلماء يتحدّثون في بعض الأوساط العلمية الحديثة عن حادثة طوفان هائل مشابهة للقصة الدينية حول طوفان نوح أو ملحمة جلجامش. وفي المدى الأقرب نجد أن سقوط روما العظيمة على يد قبائل الهون في عام 476م اصطُلِح على اعتباره نهايةً لما يُسمّى بالعصور القديمة وبدايةً للعصور الوسطى الذي يتّفق معظم المؤرِّخين على اعتبار نهايتها محدَّدة بمعركة سقوط القسطنطينية على يد الأتراك العثمانيين عام 1453م، والتي أدّت لدخول الإسلام إلى شرق ووسط أوروبا وتغيُّر كلّ النظرة الأوروبية للعالم، وهذا بدوره ابتدأ ما يُسمّى بالعصور الحديثة بدون الدخول في تقسيماتها المتعددة.  وهكذا لا نرى من الغريب أن تكون هرمجدون هي معركة “سقوط العالم” ونهاية للعصور الحديثة أو مهما سمّيناها، وذلك إذا نظرنا إليها كحلقة من حلقات الأحداث والمعارك والكوارث الكبيرة الفاصلة بين عصور التاريخ.

ومن الجدير ملاحظته هنا أن نهايات العصور السابقة كانت دوماً تحدث بسقوط مدنٍ هامة كانت محطّ أنظار وشهوة الأمم. ولا نحتاج لكثيرٍ من الإثباتات لنرى أنّ مدينة أورشليم الصغيرة والأقلّ فخامةً من روما والقسطنطينية بما لا يُقاس، كانت وما زالت مركزاً للكثير من الصراعات العالمية منذ حوالي 1500 عام، لا بل أشدّ الصراعات، لأنّ الصراع عليها دينيّ لا يزول بزوال اهميّةٍ تجاريةٍ أو اقتصاديةٍ أو سياحية.

بالمختصر، كلّ ما أريد قوله هو أنّ هرمجدون كحدث ليست غريبة أبداً عن مسار التاريخ، وعدم وجودها سيكون أكثر غرابةً ومدعاةً للتفسير من حدوثها!

يتبع…معركة هرمجدون كضرورة أخلاقية

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.