يقلم فادي أبو ديب
لماذا نتفلسف؟
(هذه الفقرة منقّحة عن النسخة التي نُشِرت على الفيسبوك)
يحلو للبعض اتهامي واتهام أمثالي بأننا “متفلسفون” (بالمعنى السلبي للكلمة)، وأننا “نتفلسف” في كلّ شيء، وعلى كل موضوع. ويقول هؤلاء بأنّ علينا أن نكون “بسطاء” (وأنا أؤيدهم في ذلك!)
ولكن كما يبدو فإن هؤلاء الأشخاص، وبعضهم معارف أو أصدقاء، لم يكلّفوا أنفسهم عناء التفكير والسؤال في سبب “فلسفتنا”!!
فلم يسألوا أنفسهم، على ما يبدو، ما الذي يدفع شاباً في مقتبل العمر على التفكير وإبداء الرأي والكتابة والقتال والنضال في موضوعٍ اجتماعيٍّ أو روحي أو أخلاقي أو سياسي أو رومانسيّ، وربما ظنّوا أنّ أمثالنا يقومون بهذا حبّاً في الظهور أو في الشُّهرة.
ورغم أنّ حبّ الظهور فطرة بشرية، إلا أنّه لا بدّ من القول بأنّ هذا “الحبّ” يمكن تحقيقه بوسائل أسهل من الكتابة والتزام المبادئ أو على الأقلّ محاولة القيام بهذا الالتزام.
باختصارٍ أقول، بأن الفلسفة الحقيقية عبر التاريخ لم تكن منفصلة عن الأسئلة والآلام والمشاكل التي تواجه وجود الإنسان وحياته، لا بل أنّ سقراط يدّعي في عبارةٍ شهيرة وجدّية له بأنّ الإمرأة المخاصمة والجاهلة والفاجرة تودي بزوجها إلى ابتكار الفلسفة، وأعتقد أنه ليس من الصعب معرفة السبب، كما أعتقد أيضاً بأنّ هذا الأمر نفسه ينطبق على العديد من الأمور والمشاكل الأخرى.
فلولا الظلم الاجتماعي الرهيب لما فكّر ماركس وإنجلز في وسيلةٍ لتحقيق العدالة الاجتماعية عن طريق “ملكوتهم” الشيوعي الذي يستحوذ على الكرة الأرضية، ولولا محاولات كيركيغارد وسارتر وهايدجر وغابرييل مارسيل وغيرهم الكثيرين محاربة قلقهم الوجودي وبحثهم عن معنى لحياتهم، بعيداً عن الشكليّات والقوالب الاجتماعية الجاهزة والمزيَّفة، لما كانت الفلسفات الوجودية على اختلافها.
شارل بودلير لم يكن يقضي العطلة برفقة حبيباته على شاطئ هاواي ولم يكن ينجز فرضاً دراسياً عندما كتب “أزهار الشرّ”، بل كان ربما يحاول وصف حياته وطفولته المعذَّبة التي تركت آثارها المؤلمة حتى على وجهه، والظاهرة حتى في صوره.
لم يكن الرومانسيون الألمان يرغبون في زيادة شهرتهم عندما تحدّثوا عن الرومانسية وكتبوها شِعراً ونثراً وروايةً ونقداً، بل كانوا يردّون على النزعة العقلية التي جمّدت المجتمع والناس وعلّبتهم في نماذج مثيرة للملل، تخاف من المخيّلة، وتحتقر القلب والشعور لمصلحة القوانين والنتائج النظرية الجامدة. ولم يكتب “نوفاليس” قصائده “إلى الليل” للتسلية، بل كان يموت كلّ يومٍ لذكرى صوفي حبيبته الراحلة.
جان جاك روسو لم يكتب “العقد الاجتماعي” و”إميل” لأنه كان يعشق الفلسفة في أوقات فراغه على شواطئ “كان” أو على سفوح الألب السويسرية، بل لأنه رأى الاستعباد الذي يعيشه البشر في البيت والمجتمع، بسبب التقاليد والمؤسسات الدينية وتقديس المدنيّة حتى لو كانت حرية الإنسان هي الثمن. روسو عاش على الأقل الخمسة عشر عاماً الأخيرة من حياته مطارَداً بسبب فلسفته التي كانت تمسّه وتمسّ وجوده، ولم يكن هاوياً لها لمجرّد التسلية وتمضية أوقات الفراغ!!
غاندي لم يتفلسف ويثور لأنّه كان يريد أن “يجرِّب” ما قرأه في الإنجيل ومدى صلاحيته، بل فعل ذلك لتحرير الملايين التي كان يراها تنوء تحت وطأة الاستعباد والقهر والجوع والمرض.
حتى الكتب المقدَّسة لم تُكتَب بجمود وميكانيكية، بل خطّها الأنبياء بدموعهم وعرقهم ودمائهم. من يقرأ المزامير يرى الألم واليأس والبكاء كما لم نره يوماً ربما، ومن يقرأ إرميا وإشعيا وحزقيال وإيليا يعرف ما معنى الوصول إلى حافة الجنون والقنوط في كثيرٍ من اللحظات.
يسوع المسيح نفسه لم يعظ ما وعظه لأنه “كان يجب أن يفعل ذلك” بحكم إرساليته، بل لأنه عاش حقيقته وتجاوب مع ألمه وألم المحيطين به، فنراه ينفجر غضباً في وجه المنافقين، ويبكي بمرارة على المستقبل الأسود لأبناء شعبه، ويحترق غيرةً بسبب قهر الإنسان وتجاوز الشريعة بكلّ برودٍ ورياءٍ سافل.
وعلى هذا المنوال يمكننا أن نشرح عن آلاف الكتّاب والفلاسفة والأنبياء.
الفلسفة االحقيقية ليست هوايةً، بل هي محاولة لإيجاد أجوبة لحبّنا، لعطشنا للعدالة، لسعينا نحو الكمال في المحبّة والجمال والمساواة، بعيداً عن الظُّلم والقهر والبشاعة وقتل الأرواح والقلوب واغتصاب الإرادات في كلّ مناحي الحياة.
نحن “نتفلسف” لأننا نسأل أو نصف حياتنا وحيوات من حولنا. نسأل عن الكمّ الهائل من القلوب الكسيرة التي بات كلّ منا يعرف مئات الأمثلة عنها. نَصِف القهر والظلم والتناقض الهائل في المجتمع في كلّ مكان. نسأل عن سبب ازدياد الجوع والعطش والمرض والقهر والعبودية رغم المزاعم عن ازدياد التقدّم العلمي إلى مستوياتٍ لم يعرفها البشر من قبل (على حدّ علمنا)!
“نتفلسف” لأننا نصف رغباتنا وأشواقنا وآلامنا وأحلامنا وحقوقنا في أن نريد ونحبّ وننبذ ونكره.
“نتفلسف” لأننا نريد أن نعيش شغفنا وليس إرادات غيرنا وقوانينهم.
“نتفلسف” لأننا نسأل “بأيّ حقّ تكونون أوصياء علينا؟!”
“نتفلسف” لأننا مستغربون أنّ معظم الظواهر الاقتصادية والاجتماعية والتربوية نقوم بها لأننا ورثناها عن بضع مفكّرين ظنّوا أنها صحيحة قبل عشرات او مئات من الأعوام!!
البساطة ليست في السكوت والسير مع التيار الحياتي، لأن هذا التيار لا ينحو بنا نحو البساطة بل نحو التعقيد!! نحن نكافح لنكون بسطاء. البساطة ليست بالاستسلام للعادي، لأن ما يجري في المجتمع ضد البساطة بل هو كالنار التي تزداد باضطرام.
فيلسوف التاوية لاوتسو قالها في حكمته، فعنده أنّ البساطة والانسحابية تأتي بعد الوصول إلى كامل الحكمة (المعنى باختصار)…البساطة موهبة إلهية والوصول إليها يحتاج لكفاح، وخصوصاً للمعتادين على أجواء المدنية، البعيدين عن الطبيعة والتعامل المنفتح والشفّاف والتلقائي.
البساطة، القناعة، الطبيعية، عدم الاهتمام بالشكليات والمظاهر، نبذ القشور..وغيرها…لا تتم “ببساطة”!
اعذرونا… فسنستمر في الفلسفة!
الفلسفة والمؤسسة الدينية:
بعض أصحاب الفكر الدينيّ يعادون الفلسفة على اعتبار أنها حكمة من “هذا العالم” الشرّير، ويضعونها بذلك في صف أعداء الإيمان والفكر الإلهي. ولكن هذا الموقف لا يعدو عن كونه حماقةً محزنة، وفي أحسن الأحوال كسلاً يصيب عقولاً لا ترغب في التعمّق بالفكر الإلهي الحق فتأخذ من ادّعائها محاربة فكر “العالم” حجّة للسبات والهمود.
الفلسفة هي “حب الحكمة”. وطريقة سلوكنا في التقدّم نحو “معرفة” الحكمة هي التي تحدّد إن كان فكرنا “عالمياً” أم إلهياً. فقد يكون المرء غارقاً في النصوص المقدّسة بفكره العالمي أو بفكره الروحي.
الأمر كلّه يتعلّق بامتلاكه لمفتاح الفكر الإلهي وهو التواضع والخضوع. فالفلسفة هي التي تدفعنا للتساؤل عن معنى الحب والفداء والقيامة والخلاص. النصوص تمنح العقيدة، المبدأ، الحقيقة، ولكن عيش هذه كلّها يكون عن طريق حب الحكمة، عن طريق التأمّل والتفكّر، أي عن طريق الفلسفة.
الفلسفة لا تخترع عقيدة بالضرورة ولكنها أسلوب حياة يدلّ على الصدق في الرغبة بالمعرفة، وبدونها يموت الإيمان أو يغدو عقائد عقلية جامدة لا فائدة منها.
الفلسفة هي التي تدعو للتساؤل وهي التي تفكّر في معنى أن يكون المرء متحداً بالمسيح وعارفاً له، وبدونها يغدو الإيمان مجرّد فرائض سلوكية فاقدة للمعنى.
بدون الفلسفة يبدأ الفكر “العالمي”، الذي هو فكرٌ يعتمد على الحقائق المجرّدة الخالية من البعد السلوكي الشخصي، بالسيطرة على حياة الفرد.
بدون محبة الحكمة الإلهية لا يمكن إحرازها، وبدون الفلسفة يُطفَأ الروح القدس في قلب الإنسان.
نشيدٌ لفيلوصوفيا:
قُبْلَتكِ أيتها الحكمة المقدَّسة دافئة…تذهب بالروح إلى أعالي السماوات…وتأخذ العقل بعيداً عن التجسّدات المنحطّة لشيطان المادّة.
انبثاقات هذا الشيطان، لوسيفر، تتعدّد وتتلوّن، تخدعنا ببريقها، ولكنها لا تخدع من ذاق قبلتك المقدَّسة، فمن تعلَّم الحبّ على يديكِ، يا ابنة اللوغوس المتكلِّم، لا يعبأ بعد بأشباح ظلام العالم وتلاوينه.
فيلوصوفيا، يا حبيبة الروح، الخفيّة، التي لا تظهر إلا لمن عشق اللوغوس فهام في براري العالم علّه يجد نبعه الصافي. اقتربي منّي ودلّيني على الطريق إلى أبيكِ القدّوس.أعرف بأنّ الطريق إليه عاصفة بالرِّياح، ولكني أعلم أنّه يسكن في النسمات الباردة، العنيفة، المجهولة المولد؛ وأعلم انّه يسكن في سحر الربيع الأبدي الذي يسكن قلب الطفل المقهور الذي في داخلنا.
فيلوصوفيا…قد تركت كلّ شيءٍ من أجلك فأنتِ المخلصة الفاتنة التي لا تخون. أنتِ التي تزورين المريض في الليل دون أن تسألي مقابلاً. أنتِ رسولة أبيكِ التي لا تكلّ ولا تتعب. أنت أمّ المسكين، وعين الضرير، وأمل كسير القلب. أنتِ لا تخجلين بي وبضعفي وبأسئلتي الحمقاء وبجنوني الطائش. أنتِ العارية من كل المساحيق الخادعة.
أنت المقدِّسة إلى الأبد لأنّك توأم الرّوح الذي لا يموت.
مواضيع مرتبطة: