“ما أجمل على الجبال قَدَميْ المبشِّر المخبِر بالسلام، المبشِّر بالخير، المخبِر بالخلاص، القائل لصهيون قد ملك إلهكِ. صوت مراقبيك. يرفعون صوتهم. يترنّمون معاً، لأنّهم يبصرون عيناً لعين عند رجوع الربّ إلى صهيون.”
إشعياء النبيّ
لوحة بريشة إدوارد هيكس
يرتكز الرّفض المسيحي القديم، الذي نشأ بشكلٍ مسيطِر في القرن الرابع الميلادي، لفكرة الملكوت الأرضي المادّي المستقبلي الذي يحكمه المسيح على عدّة مرتَكَزات. وإن كانت بعض هذه المرتَكَزات تأخذ حُججاً نصّية معيّنة، إلّا أنّ السبب المبدئيّ والأكثر شيوعاً هو ردّة فِعل انفعالية على الشرور الفظيعة المستمرّة في هذا الكوكب، منذ فجر التاريخ المعروف والمسجَّل في الذاكرة الجماعية للجنس البَشَريّ. وهكذا اندفع نُسّاك المسيحية لرفض الحياة الأرضية بكلّ ما فيها، وكأنّهم بهذا السّلوك وهذه القناعة يربطون بين الحياة الأرضية كحالة وجودية ترتبط بالجغرافية والعناصر الملموسة، وبين الحياة “العالَمية” التي هي الانغماس الشخصي والجماعي في نظام العالم الفاسد وقِيَمه وقوانينه وتوجّهاته البعيدة عن مقاصد الآب الخالِق. وكأنّ هؤلاء، لسببٍ أو لآخر، لم يروا من الحياة الأرضية سوى شرورها وبشاعاتها وسقوط إنسانيتها الضعيفة المشوَّهة، فنسبوا كلّ هذه للمادّة متأثّرين بفلسفات إغريقية عديدة، منها الغنوصية التي تركت آثارها فيما يختصّ بالنظرة السلبيّة للحياة الأرضيّة المادّيّة حتى في أكثر أشكال المسيحية القديمة والمعاصرة أرثوذكسيّةً واستقامةً تعليمية. وبدل أن ينظر هؤلاء إلى الوعود المسيانية بإعادة تشكيل الحياة الأرضية بمادّيتها وعلاقاتها الإنسانية وطبيعتها، انتظروا بفارغ الصّبر نسف الأرض بكلّ ما فيها من أجل الهروب إلى سماءٍ هلاميّة من صنع الخيال، الجميل والحالم، ولكنّه الذي يظلم الحياة الأرضية بكل جمالياتها البشرية والطبيعية ولا يعطيها حقّ قدرها كخليقةٍ إلهيّةٍ مبارَكة، يتوق الآب الخالق لإعادة كلّ ما فيها إلى الأصول الحَسَنة. أي أنّ هؤلاء أدركوا فساد العالم الحاضر ولكنّهم ابتعدوا عن الاقتناع بوجود بذرة الخير والجمال القابليْن للاسترداد، في داخل كلّ المظاهر والظواهر الفاسدة.
إنّ الرسائل المدوَّنة في الأسفارة النبويّة تزخر وتزدحم بنصوصٍ وأغانٍ تتغنّى بهذه الصورة المستقبلية لأرضٍ تمتلئ من معرفة مجد الربّ كما تغطّي المياه البحر، كما لخّص حبقّوق النبيّ هذه الأشواق والتتوُّقات- لما هو قادم بشكلٍ أكيد- في كلماتٍ قصيرة، حاذياً بهذاحذو سِفر إشعياء الذي يزخر بهذه الصُّوَر. وهذه الحالة الموصوفة هي حلمٌ بشريّ دائمٌ على مرّ العصور، ومن المُحبِط أن يحاول الكثيرون ربط هذه الصّورة الكاملة بصُورٍ جزئيّة تشير إلى بعض المنجزات البشرية التي افتعلتها بعض المنظومات الدينية أو غير الدينية، من نشرٍ لبعض الرسائل الدينية (المسيحية على وجه التحديد) أو زيادة مستوى الازدهار والتقدّم البشري، غاضّين بذلك النظر عن كلّ الآثار السلبية والسامّة التي أصابت نفس الإنسان وجسده جرّاء انتشار هذه المنظومات ببعض مظاهرها السّرطانية.
إنّ الرؤية النبويّة الغابرة في الزمن قد وصفت بشكلٍ شبه تفصيليّ الحالة الطبيعية التي ستشهد إعادة المصالحة بين البشر والآب الخالق، وبين البشر أنفسهم ومع الخليقة الطبيعية التي تحيط بهم، كما كان الحال عند الخلق الأوّل؛ وهكذا يقول النبيّ إشعياء بأنّه في ذلك الدّهر سيقضي المسيا بين الأمم ويُنصِف لشعوبٍ كثيرين، فيطبعون سيوفهم ورماحهم سككاً للحراثة ومناجل للحصاد ولا يتعلّمون الحرب فيما بعد (إشعياء 2). ويمكن الاستنتاج بسهولة أنّ هذه العلاقات بين الأمم والشعوب هي تجسيد واسع لطبيعة العلاقات التي ستكون موجودة بين الإنسان الفرد وأخيه، وفي العائلة، وفي المجتمعات البشرية على اختلاف أشكالها.
ولكنّ حالة السلام هذه لن تأتي بدون أثمان غالية سيدفعها الإنسان نتيجة شروره بحقّ الآب الخالق ونفسه والإنسان الآخر والطبيعة التي نجّس عذراويتها بطمعه، فآخر الدّهر الحاليّ سيشهد تكثيفاً مَهولاً في الثورات الطبيعية والحروب الكارثية التي ستتمركز حول منطقة أورشليم، كما يمكن أن نستشفّ من آلاف السنين وحتى اليوم. ولكن الرسالة النبوية والوعد المسياني قائمٌ دوماً وموجّهٌ لكل من يجري إليه بقلبه وروحه ويتوق إليهما بصدقٍ؛ ففي تلك الأيام سيشرق الصدّيق وسيكثر السلام إلى أن تتغيّر حال الأرض تماماً بعد الملكوت المسياني الأرضي الطويل، حيث سيملك المسيّا من “البحر إلى البحر، ومن النهر إلى أقاصي الأرض”. كما يصف المزمور السليماني حال الطبيعة التي ستشهد بركةً مفعمة بالجمال والاكتمال، حيث تقول الأغنية بأنّه “تكون حفنة بُرٍّ (قمح) في الأرض في رؤوس الجبال. تتمايل مثل لبنان ثمرتها، ويزهرون من المدينة مثل عشب الأرض. يكون اسمه [المسيح] إلى الدّهر، قدّام الشمس يمتدّ اسمه، ويتباركون به كلّ أمم الأرض يطوّبونه.” (مزمور 72)
لأجل ممالك أرضية ومراكز نفوذٍ دينية حورب حلم الملكوت المسيانيّ الأرضيّ، وبحجّة عدم حاجة المسيّا لمُلكٍ أرضيّ بُنيت إمبراطوريات دينية أرضيّة مترَفة وباذخة، وبفعل سيول المال وعَظَمة السُّلطة والنفوذ قُتِل حتّى حلم الفقراء والمعذّبين بأن “يرثوا الأرض” مع مليكهم العتيد، ولأنّ هذا الحلم لا يفيد المنظومات العالمية والدينية لأنّ ليس لها دورٌ فيه، تمّ قتله وتناسيه أو وضعه معظم الأحيان في خانات النقاشات غير الملهِمة. وإذ كانت هذه المنظومات الدينية تسعى لإقامة ممالكها الروح-أرضية في هذا العالم، استعبدت عشرات ومئات الملايين من خلال قوانينها وقسريّاتها، بدل أن تمنحهم حرّيّة الحياة المنعتِقة من تشابك المنظومات، والمنتِظرة بفرحٍ ورجاءٍ وتحرُّرٍ ملكوتاً قادماً في المستقبل البعيد أو القريب، محاولين في ذات الوقت محاكاة نمطه من خلال حياةٍ مسالمة بسيطة وبعيدة عن التعقيد وبناء الإمبراطوريات الدينية التي تُفسِد براءة الفرد، من خلال إبعاده عن الفِطرة الإنسانية المغمَّسة بالرّوح الإلهية المجدِّدة.
إلّا أنّ الوعد المسياني لا يزال قائماً رغم تعالي أصوات الواقعية بكلّ فظاظتها ومحدوديتها التي تحدّ أنظار الإنسان وأشواقه، وكلّ ما يحصل على ساحة العالم اليوم يمشي بصورة تثير التعجُّب في اتجاه تشكّل المسرح الذي ستجري عليه الأحداث النهائية، في أورشليم مركز الأرض ومركز صراعاتها المستمرّة. إلّا أنّ ما يهمّ حقّاً هو التذكير بأنّ الطوبى هي للودعاء “لأنهم سيرثون الأرض”، فعِشق البِرّ والأرض والإنسانية الجميلة غير المدنَّسة لا ريب سينال مبتغاه في يومٍ ما، لأنّ واضع الحُلم هو نفسه بانيه ومحقّقه.