لا يوجد أي مذهب فكري أو روحي بقي على ما هو عليه. هذه بديهية سيوافق عليها معظم الناس. ولكن السبب غالباً ما يُعزى إلى أمور أخرى.
السبب الرئيسي كما أرى هو أنّ المذاهب نشأت عند أناس خبروا الحياة جيداً، فبعضهم كتب وبعضهم لم يكتب، وبعضهم أسس بنياناً أخلاقياً وبعضهم بنياناً شاعرياً وآخر بنياناً سياسياً…إلخ
المشترك اليوم بين معظم أتباع جميع المذاهب أنّهم أناس لم يختبروا ولا يريدون أن يختبروا الحياة كما هي، بل على “ذوقهم” الذي يسمونه “مشيئة الله” (أؤمن بالعناية الإلهية بشكل يختلف جذرياً عما يعبّر عنه عادة بمشيئة الله). هذا حقهم طبعاً. لكن البشع في الموضوع أنّ هذا الانسحاب من الحياة يولّد رغبة في التنظير حول أشياء لا يعرفونها. وكأنّ التناسب الطردي: هناك رغبة جامحة في التنظير عن أمر كلما ازداد المرء جهلاً به ونأياً عن اختباره. مثال على ذلك أننا نجد مثلاً شباباً وشابّات بالكاد وصلوا العشرين من العمر ويتحدثون مثلاً عن “الزهد” أو “مجابهة العالم” أو “محاربة التدخين” أو “العفاف الجنسي”. هذه القيم في حد ذاتها عميقة وذات دلالات سامية للغاية. ولكن انظروا من يدعو إليها: أشخاص لم يروا شيئاً من العالم لكي يجابهوه أو يعرفوا ما هو أصلاً، ولم يدركوا بعد أعماق الإنسان ورغباته وتحولاتها وتجلّياتها، ولم يعرفوا ما يجب معرفته عن المركّبات النفسية ودور التربية واللاوعي، والضرورات الحاكمة لتطوّر الاختبار البشري واختلافاتها من فرد إلى آخر إلى حد قد يكون كبيراً جداً في بعض الحالات.
الأداة المفسدة هنا- واسمحوا لي بها أو لا تسمحوا- هي النظرة إلى النص الديني على أنّه نصّ معرفي، وهو ليس كذلك. النص الديني مادة خام، ولا يتحول إلى نصّ معرفي إلا إذا اختلط بالحياة والخبرة والاختبار والنظرة العميقة والدراسة الموسّعة والشجاعة والصراع والتقلّبات ورؤية الأضداد بأوضح مشاهدها. وهذه الأمور لا تتوافر عند المراهقين طبعاً، وخصوصاً للذين يتدرّبون منذ الطفولة ضمن تيارات دينية. هم الأكثر عزلة عن العيش ليتمكّنوا من التنظير والوعظ. اللغة في حد ذاتها لا تصبح ذات معنى إن لم تجد صفحات لها مكاناً على صفحات الحياة بكل غرائبها وشذوذاتها التي تشكّل القاعدة (يا للسخرية!). وحتى الوحي- مهما كانت فكرتنا عنه- لا يصبح ذا قيمة إلّا أعطى رسالة مفيدة للحياة بحيث تسمو بالإنسان ولا تسمو بأيّ “قيمة” معينة نفترضها رئيسية أو ثانوية.
التعلّق بالنصّ أو بالوحي أو بالوصايا…إلخ في حد ذاته تعلّق بأسطورة “السبت” الذي لم يُخلق لأجل الإنسان. هي وثنية جديدة بشكل غير تجسيميّ. إذا كان السبت لأجل الإنسان فهذا يعني أنّ الوصيّة هي لأجل الإنسان، أي أنّ الوحي لأجل الإنسان، أيّ أن الشريعة والعهود والمواثيق والتفسيرات والتأويلات والمذاهب والتيارات والأجسام الدينية والروحية، الكبرى والصغرى، هي لأجل الإنسان- الإنسان الذي يصير أفضل إذ يُحِبّ ويُحَبّ.
وهنا لا يمكن لمنظّر أن يأتي فيقول “وما أدراك أنّ هذا حبّ حقيقيّ؟” أو “ما هو الحبّ إذا كان بعيداً عن الوصيّة؟”
هذه الأسئلة تشير أيضاً إلى وثنية فرّيسية بشكل جديد. الحبّ يُعرَف حين يصير الإنسان أوسع وأكثر لطفاً وتعاطفاً ورحمة. والوصيّة أتت لأجل هذا الأمر، فلا ضير إن أنكرت نفسها بعد ذلك وابتعدت هي كلياً أو إلى حين بعد أن تؤدّي مهمتها. فليست الوصية هي الغاية بل هي الأداة.
ربما العبارة الأدق هي أن النص لا يقدم معرفة نهائية، ولذلك يمكن اكتشافه دائماً. بعض النصوص أسهل من غيرها واوضح، ولكن حتى النصوص السهلة تبقى أحياناً قابلة للفهم بطرق مختلفة وأحياناً مختلفة كلياً.
وهذا يعتمد على الافتراضات المسبقة التي نأتي بها إلى النص. من المؤكد أن البعض يؤكدون أنهم يأتون بلا خلفيات مسبقة إلى نص ما وأنهم يقرؤون بطريقة حرفية، ولكن على الغالب هذا الكلام غير دقيق ومراقبة تقنيات القراءة تكشف عن وجود العديد من الافتراضات المسبقة.
فمهما امتلكنا من المعرفة اللغوية قد تبقى هنالك زوايا غامضة ومغلقة علينا، فاللغة في حد ذاتها ليست معادلات رياضية واضحة، لأنها دائماً وأبداً مرتبطة بالزمان والمكان. هذا قد لا يؤثر على نصوص معينة، ولكنه قد يؤثر على نصوص اخرى فيقلبها رأساً عل عقب. والدليل هو كثرة التفسيرات.
فعلى سبيل المثال لا الحصر يفسر بعض الأشخاص كلمة “عربي” بأنها تعني ما يرتبط بما نعرفه أنه عربيّ اليوم. ولكن قد لا يكون هذا هو المعنى قبل مئات الأعوام، ولذلك نرى البعض الآخر يفسر كلمة العربي كمرادف للفصاحة بعمومها، وذلك عن طريق العديد من الالتفافات التفسيرية المقنعة أو غير المقنعة.
البعض مثلاً يفسر كلمة “التواضع” ضمن نص معين بأنها تعني كذا من المعاني، ولكن البعض الآخر مستنداً إلى دراسات تاريخية معينة قد يجد بانها كانت تدل حينها على فقراء القوم، الفقراء مادياً. هذا لا يعني أن كل التفسيرات مكافئة لبعضها من حيث القيمة. ولكنه يعني مجدداً أن النص لا يقدم لنا بالضرورة معرفة نهائية مباشرة.
ظننا أنه يفعل يبقى ظناً خاصاً بنا، ولكن المراقبة الدقيقة لتقنيات القراءة يكشف أن الأمر غالباً ليس هكذا. والذين يمتهنون مهنة النقد النصيّ يعرفون على وجه اليقين أنّ الأمر ليس هكذا أبداً.
فهو من ناحية معينة نصاً معرفياً بمعنى أنه مادة للعملية المعرفية، ولكنه ليس كذلك بمعنى انه يقدم قراءات منتهية مباشرة تقفز إلى وجه جميع القراء بنفس الصورة ولتقدم ذات المحتوى.
شكرا. نعم صحيح أن هناك ما يحتمل أكثر من تأويل لكن في مواضع قليلة جدا لاتؤثر على جوهر الدين. طبعا أتحدث هنا عن التأويلات المنطقية وليس عن تلك التي يراد بها اتباع هوى النفس.
قناعتي أنه لا يمكن أبدا الحياة على هذه الأرض بسلام دون اتباع منهج رباني. قد يكون الإنسان ملحد وهو بنفس الوقت محبوب ويحب الآخرين لكنه فارغ من الداخل متخبط نفسيا وهذا شيء سمعته من أحدهم. السلام النفسي لا يتحقق إلا باتباع منهج رباني كما لا تقوم الدول الا بالقوانين.
الآن، هل يمكن للإنسان أن يضع منهجا لنفسه ويسير عليه؟ وهل يمكن لبشر متحول أن يضع قانونا دنيويا لغيره من اابشر ويأمرهم باتباعه؟ بالتأكيد لا.
الوحي إنما أرسل لينظم حياة البشر وعلاقاتهم، وإلا فما فائدته، وما فائدة الرسل؟
ومن قال أن النص الديني يأمرني أن أكون ملاكا؟ وأن لا أخطئ؟ هو فقط يوجهني لما فيه خيري أولا.
إذا كانت لديك أمثلة معبنة من الكتب المقدسة تجد أنها لا تصب في مصلحة البشر أتمنى أن أعرفها لأني شخصيا لم أجد ذلك.
شكرا مرة أخرى.
المقال لا يتطرق أبداً إلى ما إذا كانت النصوص المقدسة تصب في مصلحة البشر أم لا. لا أعتقد عموماً أنه من المفيد محاولة إثبات أنها لا تصب في مصلحة البشر. الإنسان هو من يؤذي نفسه ببعض طرق القراءة والتفسير.
البشر لا يبتكرون القوانين من العدم غالباً حتى لو ظنوا ذلك، فهي في أساسها متوارثة منذ قديم الأزمنة وكثير منها يرتكز على أساسات دينية. كذلك كثير من البشر يدعون الإلحاد وهم في الواقع ليسوا كذلك، هم يرفضون أحياناً بعض التصورات والمفاهيم الشائعة فيستعملون هذا المصطلح المطاط. وبالتأكيد من ليس لديه منهج ثابت
ومطلق بالنسبة إليه، كالدين، سيعيش متخبطاً بلا شك.
المقصد أن بعض التأويلات قد لا تغير جوهر الدين، ولكنها تغير سلوك الإنسان وتعامله مع الآخرين. أليست جميع مشاكل البشر بسبب أفكار البشر عن بعضهم وتعاملهم على هذا الأساس؟
“لا أعتقد عموما أنه من المفيد محاولة إثبات أنها لا تصب في مصلحة البشر” هل هذا يعني أنك تراها لا تصب في مصلحة البشر؟ هل من الممكن إعطاء جواب محدد؟ نعم أو لا.
النصوص المقدسة في رأيي يجب أن تكون صالحة لكل زمان ومكان وأن تصب في مصلحة البشر وإلا تفقد قدسيتها وأهميتها.
البشر قتلوا الأنبياء، تريد منهم ألا يسيؤوا التأويل؟
وجود هؤلاء لا يجب أن يؤثر على نظرتنا للكتب المقدسة.
:D أنا قصدت أن لا أعطي حواباً محدداً، لأنني أعتقد بأن الأمر يعود إلى الإنسان. الدين غير موجود من دون إنسان يدين به. كل تركيز المقالة هو على الإنسان وما يفعل.
من ناحية النصوص، فبالفعل توجد نصوص يجب أن تكون صالحة لكل زمان ومكان كالنصوص الإيمانية. وهناك نصوص قد لا تصلح في صريح عبارتها لكل زمان ومكان كالنصوص التي تختص بحدث معين يمكن استخلاص العبرة منه لكل زمان ومكان ولكن لا يمكن أخذه بحرفيته، كأي نص يتحدث مثلاً عن واقع سياسي معين زال بمرور الزمن أو ما شابه.
طيب. والأمر كذلك، فمن يحدد إذا ما هو صالح لكل زمان ومكان في الكتب المقدسة وما هو غير صالح؟ هل يترك الموضوع لكل إنسان ليتصرف على هواه، أم نضع أنفسنا تحت رحمة رجال الدين الذين تعرفهم أكثر مني ربما(ولا أعمم)؟
ثم إني ما زلت أرغب بالحصول على أمثلة من الكتب المقدسة.
ها أنت قد وضعت إصبعك على حقيقة المشكلة من الناحية العملية (نستطيع أن ننظّر إلى الصباح حول ذلك، ولكن يهمنا الناحية العملية): بالفعل من الذي يحدد ما هو صالح لكل زمان ومكان وما هو غير ذلك؟ والجواب العملي هو : لا أحد :) ولعلنا نرى حولنا نتائج ذلك، فالفرق والمذاهب تتصارع بسبب خلافات كهذه.
بالمناسبة، أنا التي وجهت السؤال لك لكون حضرتك من تفضلت بفكرة أن بعض الآيات تصلح لكل زمان ومكان وبعضها لا، لذا أنا من يجب أن يحصل على الجواب. أنا شخصيا مقتنعة أن النص المقدس صالح لكل زمان ومكان.
والخلافات التي تحدث هي بسبب عدم قراءة النص أصلا وتسليم العقل لمن يسمون أنفسهم برجال الدين أو بسبب لي النص الديني ليوافق الأهواء.
أما عن الأمثلة فقد ضربت بعضها في رد سابق وهي أمثلة حقيقية وواقعية.
أما عن ما هو صالح وغير صالح فأي نص تجدين الناس يختلفون فيه وبعضهم يقول هذا النص نزل في كذا وكذا وخاطب الحالة الفلانية، والبعض يقول لا هذا لكل زمان ومكان.
أعطيت أمثلة عامة. أنا أريد أمثلة من الكتب المقدسة.
هي أمثلة من الكتب المقدسة. انا فقط لم أزودك بالمصدر، لأن هذه ملخص دراسات موجودة ولكن المراجع غير متوفرة عندي حالياً فاكتفيت بالإشارة للفكرة فقط.
هناك مئات من هذه الأمثلة. ولأضرب مثالاً معيناً يمكن فهمه بسهولة:
مسألة عودة اليهود إلى فلسطين، بغض النظر عن جوانبها السياسية الاستعمارية والاقتصادية، تتوقف على الخلاف على نص: هل هو لكل زمان ومكان أم هو لزمن معين.
فالذين يدعمون عودة اليهود إلى فلسطين وتشكيل دولة يقولون إن النصوص اليهودية هي لكل زمان ومكان. بينما معارضو هذا التفسير يقولون إن النص كان خاصاً بظرف معين وشرط معين لم يعد متوفراً.
بغض النظر عن موقفنا من النص إلا أن هذا مثال على الأمر. يمكن ضرب أمثلة شبيهة من جميع الكتب، ليس المقدسة فقط، بل أيضاً من دساتير الدول والنصوص التشريعية حيث يلعب المحامون لعبتهم. والنص المقدس نص لغوي، مؤلف من مفردات وتراكيب هناك علاقات بينها، بغض النظر عن مدى قدسيتها. فقدرتنا نحن البشر على التفسير تبقى هي هي مهما كانت قيمة النص.
الفكرة هي في التقنية القرائية وليس في تقييم النص نفسه. والأمر يتعلق في القدرة على ربط التراكيب والنصوص ببعضها. ومهما كان عملنا ممتازاً في التأويل فإنه يبقى غير ملزم لغيرنا حتى لو كان “هو الصحيح”. وبالتالي يبقى الخلاف قائماً.
أعتقد أن هذا المثال من العهد القديم، ونظرتي للأمور في هذه الحالة هي كالتالي:
أُرسل موسى عليه السلام إلى بني اسرائيل وتم تكليفهم حينها بأوامر معينة. أيضا تم إخبارهم أن رسولا آخر سيأتي بعد ذلك وأن عليهم اتباعه. السؤال: هل حمل لهم الأنبياء اللاحقون هذا الأمر؟
المقصود: الديانات جاءت لتكمل بعضها الآخر وهذه نقطة يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار عند التفسير.
جيد جيد :) لنقل إن هذا مبدأ تفسيريّ. البعض يقبلونه والبعض لا يقبلونه، والبعض الثالث يقبله جزئياً، بمعنى أنه يقبل فكرة التكامل والتكميل ولكنه يعتبر أن بعض الأمور لا تتغير.
والذين يقبلون بمسألة تكميل الديانات لبعضها يختلفون عند قراءة النصوص وآلاف التفاصيل فيها على الأولويات؛ فهل الفكرة الفلانية هي الفكرة العامة التي يجب أن تقود باقي النصوص أم الفكرة الأخرى أم…إلخ
الأمثلة على ما أقول واضحة في المقالات الدراسية الأكاديمية الجدية وكثيرة جداً، لا بل هي بالفعل الموضوع الوحيد لهذه الدراسات.
كملخص يمكن أن نقول التالي: بعض الاختلافات التأويلية هي بسبب جهل، هذا صحيح. ولكن البعض الآخر هو أمر طبيعي جداً ناجم عن اختلاف تقنيات القراءة وكيفية توزع الأولويات، ويحصل بين أناس مخلصين ويريدون المعرفة الحقيقية.
الحلول النظرية سهلة ووضع القواعد العامة أسهل، ولكن عند القراءة الفعلية تبدأ الصعوبات ولذلك قامت الجامعات ومراكز البحوث وما شاكل. بعض الاختلافات صغيرة ولا قيمة لها ولكن بعضها الآخر كبير جداً بحيث يبدو هناك هوة بين الطرفين.
نعم هناك مصائب نراها رأي العين يوميا، لا أنكر ذلك، وهي غير محصورة بديانة معينة. كما ذكرت حضرتك سابقا أي شيء ممكن أن يفسر بطرق ملتوية لأجندات معينة، لكن هذا لا يعني بالضرورة أن المشكلة بالشيء الذي يساء فهمه وتأويله، إذ من غير المعقول أن يكون الكتاب المقدس، الذي يفترض به أن يكون منهجا لي، خاطئا.
أنا كنت أشير فقط إلى ما حولنا من خلافات واختلافات. بعضها يؤدي إلى مصائب وبعضها لا ولكنه موجود ويؤدي إلى اختلافات وتناقضات.
لم تطرح المقالة على ما أتذكر فكرة وجود الخطأ في النصوص نفسها، لأنني كما ذكرت سابقاً لا أركز في هذه النقطة بل في مسؤولية الإنسان والقارئ في الدراسة والفهم والتدبّر والصبر.
نعم هي مسؤولية الإنسان، وهو من يتحمل النتائج أولا وأخيرا في هذه الدنيا، وكل شخص يُحاسب منفردا على أعماله ولا يحمل أوزار غيره في الحياة الآخرة، وهذا جيد وعادل لأن الإنسان مهما ادعى فهو يعرف نفسه جيدا ويعرف إذا ما كان مخلصا في محاولة الفهم أم ضعيفا يبحث في النصوص عن هوى نفسه.
لماذا تعتقد أن النص الديني ليس نص معرفي؟ هل يمكن إعطاء مثال؟
إذا كانت تعليقاتي تسبب أي إزعاج أتوقف فورا 🙂
على العكس. تعليقاتك مرحَّب بها.
ربما العبارة الأدق هي أن النص لا يقدم معرفة نهائية، ولذلك يمكن اكتشافه دائماً. بعض النصوص أسهل من غيرها واوضح، ولكن حتى النصوص السهلة تبقى أحياناً قابلة للفهم بطرق مختلفة وأحياناً مختلفة كلياً.
وهذا يعتمد على الافتراضات المسبقة التي نأتي بها إلى النص. من المؤكد أن البعض يؤكدون أنهم يأتون بلا خلفيات مسبقة إلى نص ما وأنهم يقرؤون بطريقة حرفية، ولكن على الغالب هذا الكلام غير دقيق ومراقبة تقنيات القراءة تكشف عن وجود العديد من الافتراضات المسبقة.
فمهما امتلكنا من المعرفة اللغوية قد تبقى هنالك زوايا غامضة ومغلقة علينا، فاللغة في حد ذاتها ليست معادلات رياضية واضحة، لأنها دائماً وأبداً مرتبطة بالزمان والمكان. هذا قد لا يؤثر على نصوص معينة، ولكنه قد يؤثر على نصوص اخرى فيقلبها رأساً عل عقب. والدليل هو كثرة التفسيرات.
فعلى سبيل المثال لا الحصر يفسر بعض الأشخاص كلمة “عربي” بأنها تعني ما يرتبط بما نعرفه أنه عربيّ اليوم. ولكن قد لا يكون هذا هو المعنى قبل مئات الأعوام، ولذلك نرى البعض الآخر يفسر كلمة العربي كمرادف للفصاحة بعمومها، وذلك عن طريق العديد من الالتفافات التفسيرية المقنعة أو غير المقنعة.
البعض مثلاً يفسر كلمة “التواضع” ضمن نص معين بأنها تعني كذا من المعاني، ولكن البعض الآخر مستنداً إلى دراسات تاريخية معينة قد يجد بانها كانت تدل حينها على فقراء القوم، الفقراء مادياً. هذا لا يعني أن كل التفسيرات مكافئة لبعضها من حيث القيمة. ولكنه يعني مجدداً أن النص لا يقدم لنا بالضرورة معرفة نهائية مباشرة.
ظننا أنه يفعل يبقى ظناً خاصاً بنا، ولكن المراقبة الدقيقة لتقنيات القراءة يكشف أن الأمر غالباً ليس هكذا. والذين يمتهنون مهنة النقد النصيّ يعرفون على وجه اليقين أنّ الأمر ليس هكذا أبداً.
فهو من ناحية معينة نصاً معرفياً بمعنى أنه مادة للعملية المعرفية، ولكنه ليس كذلك بمعنى انه يقدم قراءات منتهية مباشرة تقفز إلى وجه جميع القراء بنفس الصورة ولتقدم ذات المحتوى.
شكرا. نعم صحيح أن هناك ما يحتمل أكثر من تأويل لكن في مواضع قليلة جدا لاتؤثر على جوهر الدين. طبعا أتحدث هنا عن التأويلات المنطقية وليس عن تلك التي يراد بها اتباع هوى النفس.
قناعتي أنه لا يمكن أبدا الحياة على هذه الأرض بسلام دون اتباع منهج رباني. قد يكون الإنسان ملحد وهو بنفس الوقت محبوب ويحب الآخرين لكنه فارغ من الداخل متخبط نفسيا وهذا شيء سمعته من أحدهم. السلام النفسي لا يتحقق إلا باتباع منهج رباني كما لا تقوم الدول الا بالقوانين.
الآن، هل يمكن للإنسان أن يضع منهجا لنفسه ويسير عليه؟ وهل يمكن لبشر متحول أن يضع قانونا دنيويا لغيره من اابشر ويأمرهم باتباعه؟ بالتأكيد لا.
الوحي إنما أرسل لينظم حياة البشر وعلاقاتهم، وإلا فما فائدته، وما فائدة الرسل؟
ومن قال أن النص الديني يأمرني أن أكون ملاكا؟ وأن لا أخطئ؟ هو فقط يوجهني لما فيه خيري أولا.
إذا كانت لديك أمثلة معبنة من الكتب المقدسة تجد أنها لا تصب في مصلحة البشر أتمنى أن أعرفها لأني شخصيا لم أجد ذلك.
شكرا مرة أخرى.
المقال لا يتطرق أبداً إلى ما إذا كانت النصوص المقدسة تصب في مصلحة البشر أم لا. لا أعتقد عموماً أنه من المفيد محاولة إثبات أنها لا تصب في مصلحة البشر. الإنسان هو من يؤذي نفسه ببعض طرق القراءة والتفسير.
البشر لا يبتكرون القوانين من العدم غالباً حتى لو ظنوا ذلك، فهي في أساسها متوارثة منذ قديم الأزمنة وكثير منها يرتكز على أساسات دينية. كذلك كثير من البشر يدعون الإلحاد وهم في الواقع ليسوا كذلك، هم يرفضون أحياناً بعض التصورات والمفاهيم الشائعة فيستعملون هذا المصطلح المطاط. وبالتأكيد من ليس لديه منهج ثابت
ومطلق بالنسبة إليه، كالدين، سيعيش متخبطاً بلا شك.
المقصد أن بعض التأويلات قد لا تغير جوهر الدين، ولكنها تغير سلوك الإنسان وتعامله مع الآخرين. أليست جميع مشاكل البشر بسبب أفكار البشر عن بعضهم وتعاملهم على هذا الأساس؟
“لا أعتقد عموما أنه من المفيد محاولة إثبات أنها لا تصب في مصلحة البشر” هل هذا يعني أنك تراها لا تصب في مصلحة البشر؟ هل من الممكن إعطاء جواب محدد؟ نعم أو لا.
النصوص المقدسة في رأيي يجب أن تكون صالحة لكل زمان ومكان وأن تصب في مصلحة البشر وإلا تفقد قدسيتها وأهميتها.
البشر قتلوا الأنبياء، تريد منهم ألا يسيؤوا التأويل؟
وجود هؤلاء لا يجب أن يؤثر على نظرتنا للكتب المقدسة.
:D أنا قصدت أن لا أعطي حواباً محدداً، لأنني أعتقد بأن الأمر يعود إلى الإنسان. الدين غير موجود من دون إنسان يدين به. كل تركيز المقالة هو على الإنسان وما يفعل.
من ناحية النصوص، فبالفعل توجد نصوص يجب أن تكون صالحة لكل زمان ومكان كالنصوص الإيمانية. وهناك نصوص قد لا تصلح في صريح عبارتها لكل زمان ومكان كالنصوص التي تختص بحدث معين يمكن استخلاص العبرة منه لكل زمان ومكان ولكن لا يمكن أخذه بحرفيته، كأي نص يتحدث مثلاً عن واقع سياسي معين زال بمرور الزمن أو ما شابه.
طيب. والأمر كذلك، فمن يحدد إذا ما هو صالح لكل زمان ومكان في الكتب المقدسة وما هو غير صالح؟ هل يترك الموضوع لكل إنسان ليتصرف على هواه، أم نضع أنفسنا تحت رحمة رجال الدين الذين تعرفهم أكثر مني ربما(ولا أعمم)؟
ثم إني ما زلت أرغب بالحصول على أمثلة من الكتب المقدسة.
ها أنت قد وضعت إصبعك على حقيقة المشكلة من الناحية العملية (نستطيع أن ننظّر إلى الصباح حول ذلك، ولكن يهمنا الناحية العملية): بالفعل من الذي يحدد ما هو صالح لكل زمان ومكان وما هو غير ذلك؟ والجواب العملي هو : لا أحد :) ولعلنا نرى حولنا نتائج ذلك، فالفرق والمذاهب تتصارع بسبب خلافات كهذه.
بالمناسبة، أنا التي وجهت السؤال لك لكون حضرتك من تفضلت بفكرة أن بعض الآيات تصلح لكل زمان ومكان وبعضها لا، لذا أنا من يجب أن يحصل على الجواب. أنا شخصيا مقتنعة أن النص المقدس صالح لكل زمان ومكان.
والخلافات التي تحدث هي بسبب عدم قراءة النص أصلا وتسليم العقل لمن يسمون أنفسهم برجال الدين أو بسبب لي النص الديني ليوافق الأهواء.
أما عن الأمثلة فقد ضربت بعضها في رد سابق وهي أمثلة حقيقية وواقعية.
أما عن ما هو صالح وغير صالح فأي نص تجدين الناس يختلفون فيه وبعضهم يقول هذا النص نزل في كذا وكذا وخاطب الحالة الفلانية، والبعض يقول لا هذا لكل زمان ومكان.
أعطيت أمثلة عامة. أنا أريد أمثلة من الكتب المقدسة.
هي أمثلة من الكتب المقدسة. انا فقط لم أزودك بالمصدر، لأن هذه ملخص دراسات موجودة ولكن المراجع غير متوفرة عندي حالياً فاكتفيت بالإشارة للفكرة فقط.
هناك مئات من هذه الأمثلة. ولأضرب مثالاً معيناً يمكن فهمه بسهولة:
مسألة عودة اليهود إلى فلسطين، بغض النظر عن جوانبها السياسية الاستعمارية والاقتصادية، تتوقف على الخلاف على نص: هل هو لكل زمان ومكان أم هو لزمن معين.
فالذين يدعمون عودة اليهود إلى فلسطين وتشكيل دولة يقولون إن النصوص اليهودية هي لكل زمان ومكان. بينما معارضو هذا التفسير يقولون إن النص كان خاصاً بظرف معين وشرط معين لم يعد متوفراً.
بغض النظر عن موقفنا من النص إلا أن هذا مثال على الأمر. يمكن ضرب أمثلة شبيهة من جميع الكتب، ليس المقدسة فقط، بل أيضاً من دساتير الدول والنصوص التشريعية حيث يلعب المحامون لعبتهم. والنص المقدس نص لغوي، مؤلف من مفردات وتراكيب هناك علاقات بينها، بغض النظر عن مدى قدسيتها. فقدرتنا نحن البشر على التفسير تبقى هي هي مهما كانت قيمة النص.
الفكرة هي في التقنية القرائية وليس في تقييم النص نفسه. والأمر يتعلق في القدرة على ربط التراكيب والنصوص ببعضها. ومهما كان عملنا ممتازاً في التأويل فإنه يبقى غير ملزم لغيرنا حتى لو كان “هو الصحيح”. وبالتالي يبقى الخلاف قائماً.
أعتقد أن هذا المثال من العهد القديم، ونظرتي للأمور في هذه الحالة هي كالتالي:
أُرسل موسى عليه السلام إلى بني اسرائيل وتم تكليفهم حينها بأوامر معينة. أيضا تم إخبارهم أن رسولا آخر سيأتي بعد ذلك وأن عليهم اتباعه. السؤال: هل حمل لهم الأنبياء اللاحقون هذا الأمر؟
المقصود: الديانات جاءت لتكمل بعضها الآخر وهذه نقطة يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار عند التفسير.
جيد جيد :) لنقل إن هذا مبدأ تفسيريّ. البعض يقبلونه والبعض لا يقبلونه، والبعض الثالث يقبله جزئياً، بمعنى أنه يقبل فكرة التكامل والتكميل ولكنه يعتبر أن بعض الأمور لا تتغير.
والذين يقبلون بمسألة تكميل الديانات لبعضها يختلفون عند قراءة النصوص وآلاف التفاصيل فيها على الأولويات؛ فهل الفكرة الفلانية هي الفكرة العامة التي يجب أن تقود باقي النصوص أم الفكرة الأخرى أم…إلخ
الأمثلة على ما أقول واضحة في المقالات الدراسية الأكاديمية الجدية وكثيرة جداً، لا بل هي بالفعل الموضوع الوحيد لهذه الدراسات.
كملخص يمكن أن نقول التالي: بعض الاختلافات التأويلية هي بسبب جهل، هذا صحيح. ولكن البعض الآخر هو أمر طبيعي جداً ناجم عن اختلاف تقنيات القراءة وكيفية توزع الأولويات، ويحصل بين أناس مخلصين ويريدون المعرفة الحقيقية.
الحلول النظرية سهلة ووضع القواعد العامة أسهل، ولكن عند القراءة الفعلية تبدأ الصعوبات ولذلك قامت الجامعات ومراكز البحوث وما شاكل. بعض الاختلافات صغيرة ولا قيمة لها ولكن بعضها الآخر كبير جداً بحيث يبدو هناك هوة بين الطرفين.
وهذا نراه كل يوم بالعين المجرّدة.
نعم هناك مصائب نراها رأي العين يوميا، لا أنكر ذلك، وهي غير محصورة بديانة معينة. كما ذكرت حضرتك سابقا أي شيء ممكن أن يفسر بطرق ملتوية لأجندات معينة، لكن هذا لا يعني بالضرورة أن المشكلة بالشيء الذي يساء فهمه وتأويله، إذ من غير المعقول أن يكون الكتاب المقدس، الذي يفترض به أن يكون منهجا لي، خاطئا.
أنا كنت أشير فقط إلى ما حولنا من خلافات واختلافات. بعضها يؤدي إلى مصائب وبعضها لا ولكنه موجود ويؤدي إلى اختلافات وتناقضات.
لم تطرح المقالة على ما أتذكر فكرة وجود الخطأ في النصوص نفسها، لأنني كما ذكرت سابقاً لا أركز في هذه النقطة بل في مسؤولية الإنسان والقارئ في الدراسة والفهم والتدبّر والصبر.
نعم هي مسؤولية الإنسان، وهو من يتحمل النتائج أولا وأخيرا في هذه الدنيا، وكل شخص يُحاسب منفردا على أعماله ولا يحمل أوزار غيره في الحياة الآخرة، وهذا جيد وعادل لأن الإنسان مهما ادعى فهو يعرف نفسه جيدا ويعرف إذا ما كان مخلصا في محاولة الفهم أم ضعيفا يبحث في النصوص عن هوى نفسه.
شكرا جزيلا.
الشكر لكِ على إثراء المقالة وعلى الحوار الشيّق. تبقى المقالات بلا قيمة من دون قرّاء يتفاعلون معها وبدققون في تفاصيلها.